ثقافة

قراءة في مجموعة (سيجت دمعي ببكائك) الشعرية الكاريكاتورية

هل من شاعر (جاد ومبدع) لا يخاف من لحظات كتابة القصيدة؟ وهل من قصيدة تكتب بلا وجع، وهلع؟ فالشعراء الكبار هم الذين يخافون من ولادة القصيدة، ومن لا يخاف فهو ليس بشاعر!
في لحظات التجلي والانعتاق ترعد السماء بغيومها، وتبرق المزن، وتحتج الرياح، إنها الحشود التي كانت محاصرة في مكانها لدى الشاعر تستيقظ في هذا العالم المشحون بالخوف، والتوتر، والتلعثم، فالشاعر رهن اعتمالاته النفسية، وارتعاش الأفق قبل غياب النور؟!
وقد يحكى عن التخدير الذي ينتاب التأثير في قصيدة (الهايكو) في كل اتساعات، ومدارات الأشكال التعبيرية، فهي تقوم أي المؤثرات (الهايكوية) حيث يكون، ويقوم على التركيز، والتكثيف، والاقتصاد في حاجة واستخدام اللغة – قصيدة (الومضة) تجربة لحالات المجتمع المشغول بهموم كثيرة! ورغم صغرها، وضآلة حجمها، لا تأخذ من وقت القارئ سوى القليل.
في المراحل الأخيرة، عانى الشعر والشعراء من ذلك السرد الخطابي، والترهل الإنشائي، حيث كانت اللعبة أن مل، وهرب الجمهور وابتعد الشعراء من حالات النفور الذي اعترى المشهد الشعري، فكان إن هلت بكامل أناقتها وكياستها، قصيدة (الومضة) حيث مسكت حبل الرجوع إلى العودة، حاملة معها الصفاء، والتركيز، ووسعت دائرة المتلقي، وشاعر (الومضة) جسور في التعامل مع الواقع اليومي المعيوش، وهذا الركام المرعب من الشعر المنظوم، والمطولات، عن فكرة شاردة مكثفة، وحميمة، والجميل في (الومضة) أنها تحتمل مجموعة من النصوص الشعرية القصيرة، ذات الدلالات والظلال المتعددة، لا يربطها سوى خيط الشعرية، وحضورها في مكانها المؤثر، وتحت عنوان كقرون الوعل الاستوائي، وبأشكال لا تقارب بعضها البعض أحياناً!
بين يدي المجموعة الثالثة لفنان الكاريكاتير والشاعر (الكاري شعري) المبدع رائد خليل في مجموعته التالية (سيجت دمعي ببكائك) فنان يجيد القنص (قناص لوحة وقانص قصيدة) وكل مجموعاته وضعها تحت مسمى (تأملات ملونة) والشاعر (خليل) قال على غلاف المجموعة ما معناه (لولا خميرة يديك، لما صار رغيف لوحتي جاهزاً! ندري أو لا ندري هل المخاطب في هذه (الومضة الروعة) الأم، أم العشيقة فكلاهما لوحة وقصيدة، يتجليان في سيرورة الحياة، فلا مناص، ولا خلاص من هذا الثنائي ولا بديل، سوى الإبداع والبذل بالروح؟!
الشغل الشعري (الومضة) بعنوان (سيجت دمعي ببكائك) دلالة هذا العنوان اللافت والملفت بأن دموع الشاعر أحاطها بدموع بكاء التي أحبته، وكيف تكون الدموع إن لم يكن هناك بكاء، وكيف يكون مطر بلا غيمة؟! هذه التراجيديا الساخنة، كيف ولّفها (رائد خليل) وأعطاها من لدنه فسحة من العواطف؟ والتقت الدموع لتشكلا جدول حب وعطاء، وتعانق الشعر والكاريكاتور لدى (رائد) فكان هذا المنتج الإبداعي، وكان فهرس العناوين يضم من ص 5 وحتى ص 47 تحت اسم (ومضات) من ص 48 وحتى ص 99 تحت عنوان واحد (قصاصات) لندخل حديقة الشاعر الفنان، وننعم بهذه المنمنمات، وهذه اللوحات التي أسميناها (الكاري شعري)؟!
/أتذكرين حين داعبنا فستق الليل / رأيت فرحاً يمتطي صهيل نشوتي. وتظاهرة تتسع لها الخدود / أعترف أنك تفوقت / على مساحة صوتي / وتغلبت على بحة الناي / ص 10 وكيف يكون التناغم بين هذه المفردات المفرطة في الدهشة والذهول، فستق الليل – الصهيل – التظاهرة – بحة الناي هذه المفارقات التي توقظ القارئ من كبوة طارئة، ليدخل في اتساعات الهواجس،  واحتمال الذي لا يرى بالعين، كيف القلب يتلقفه بحالات لا تخطر على البال؟!
ومن مقطع بعنوان (غموض) يقول: /من أنسى العصفور يقظة التغريد / حتى فر من حرقة المعنى / رعش النص المكابر؟ / يا ناي أعرف أن منقار النبوءات / أغوى شهود السنابل / وأردى منجلي ذبولاً / ص 31 من يخاطب، ويعاتب خليل وبحرقة مدفونة في نغمات الناي الحزين، وهو العارف بمن أوصلنا إلى نسيان نصوصنا الجميلة، وينحني الزرع ميؤوساً من بيادره!
ومن حاكورة (قصاصات) بعض المحطات الشعرية، ها هو يقول: / منذور للاحتمال/ أتيت كرمى للأثر / ولأرتق ثوب اليقين / أتيت حاصداً قلق السنابل / وبيادر الأنين / ص 49 وشاعرنا تململ من تحت لحاف الحلم إلى يقظة النهارات، عاد كفارس ندهته العشيرة، واستجاب للنداء، هو الوطن المكابر، والمواسم، البيادر، هي سورية التي أعطت العالم سر الحضارات، يقول: / أنا أقرب إلى النبع من الماء / اسألي صفصاف الشط / وحناجر العناق / عن العطش المهجور / ما بين السطور / ص 54
ولأن شاعرنا الفنان يحب بلاده إلى حدود التماهي، وأعماق الانتماء الذي ينبض في كيان ألوان لوحته، والدم الراكض أبد الحياة في شرايين وجوده، يقول واللهفة، قد وصلت إلى حدود اللهفة: / كلما فكت السماء أزرار بردها / دهمني نداء الشاعر / (يا ثلج قد ذكرتني أمي) / ص 77 أو ليست هذه اللوحة / القصيدة، مدعاة وبدون مجاملة إلى البكاء والتنهد؟! يقول: /الومضة حين تعشش / في عناقيد أفكاري / يندلع محراب الندى / وتشب الأطياف في مداري! / ص 88 وآخر الومضات في مجموعته يقول: /إياك أن ترسمي دهشة اللقاء / فثمة ممحاة حاقدة / أباحت تغيير لمواعيد / ص 99
وليس أخيراً، لكنني محكوم باللا أدري، وكيف تأخذ طريقها إلى القارئ في هدوء وليس كالذي يسبق العاصفة، وإنما كنبع فوار يدغدغ بمراهقة ناضجة، خطوات المسيل الرائح صوب البساتين، والبراري والعطاش والـ؟! فتلك هي قصيدة (الومضة) ومن معانيها (الدهشة والذهول والانبهار والصدام الجميل).
سيجت دمعي ببكائك- رائد خليل- الغلاف: الفنان رائد خليل- إصدارات: نون 2014
خضر عكاري                                     khudaralakari@hotmail.com