منولوج “الحلم” قصة حبّ غنائية تتناغم مع زخرفة إيقاعية..
منولوج “أغنية الحلم” يحكي قصة حبّ بين عاشقين تنتهي بقفلة تدهش السامعين .. ليبقى الحلم مجرد حلم يضيع في مهب الريح، صور شعرية حالمة صاغها بيرم التونسي وصوّرها زكريا أحمد بتنوع المقامات المتناغمة مع المعاني الروحية، وتميّزت بالغناء المتفرد لأم كلثوم، فاجتمع العمالقة الثلاثة في هذه المطولة الشهيرة.
“الحلم”.. كانت المحور الأساسي لمحاضرة الباحث وضاح رجب باشا من سلسلة محاضرات موسيقا الزمن الجميل في ثقافي “أبو رمانة” طغى عليها البعد التحليلي للمقامات المتنوعة داخل المقطع الواحد، وركز على تقنية الاهتزاز الصوتي الذي استخدمته أم كلثوم في مواضع عدة من الأغنية.
الخروج من دائرة القصبجي
قبل البدء بالتحليل تحدث الباحث عن العلاقة الجدلية بين أم كلثوم وزكريا أحمد، التي مرّت بمراحل تعاقب فيها الاتفاق والخلاف الذي وصل في النهاية إلى المحاكم القضائية، لكنه انتهى بالصلح.
ارتبطت أم كلثوم بألحان زكريا أحمد منذ بداية الثلاثينيات بعد أن كانت تمضي بمسارها الفني ضمن دائرة ألحان محمد القصبجي، الذي لم يكن ملحناً وعازفاً ماهراً للعود فحسب، وإنما كان مجدداً للأغنية الشرقية، ووصف بأنه امتداد لسيد درويش، وتمكن من التجديد بالجمل اللحنية فقدم ألحاناً بمقامات متنوعة أذهلت الأوروبيين قبل العرب، لكن أم كلثوم أرادت أن تخرج من إطار التجديد الذي فرضه عليها القصبجي لتبقى أسيرة الحالة الطربية التي شغف بها جمهور العالم العربي في الثلاثينيات ولم يتقبل حالة التجديد، وصممت على التغيير أكثر بعد فشل فيلمها “نشيد الأمل” القائم على السينما الغنائية، وحمّلت المسؤولية للقصبجي الذي رافقها فيما بعد كعازف عود فقط.
الجمل الطربية
ووجدت “أم كلثوم” في ألحان زكريا أحمد صاحب الجمل الطربية المدروسة والمجدد بالشكل وليس بالمضمون والمنتمي إلى المدرسة التقليدية مبتغاها، فلحن لها 57 لحناً فُقدت سبعة ألحان منها أثناء الانتقال من عهد الملك فاروق إلى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، في هذه المرحلة بدأ معها أحمد بالأغنيات القصيرة مثل: (الليل يطول وجمالك ربنا يزيده وياما أمر الفراق وأكون سعيد لو شفتك والعزول فايق ورايق) وهنا حلل الباحث مساحة صوت أم كلثوم بالقفلة خاصة من حيث الدقة بلفظ مخارج الحروف،لاسيما أنها تعلمت تجويد القرآن الكريم، واتبعت هذه الأغنيات النمط التقليدي المنتمي إلى الطقطوقة القائم على لحن ثابت يتكرر في كل مقطع، كما في “في هواك شفت العجايب عقلي منك حاضر وغايب”
الاهتزاز الصوتي
في الأربعينيات طوّر زكريا أحمد ألحانه وهو الملحن لكل أنماط الموسيقا العربية، فبدأ بالدور الذي اشتهر من خلال محمد عثمان وداود حسني، وتفوق فيه زكريا حتى على عبد الوهاب، تزامنت هذه المرحلة مع ذروة تصاعد السينما الغنائية، فلحن زكريا أغنيات أفلام أم كلثوم في هذه المرحلة واشتهرت أغنية “يللي تشكي من الهوى” ثم “رضاك يا خالقي لما أناديك تسمع شكواي” التي تميزت بتحكم أم كلثوم بالحنجرة أثناء الأداء الغنائي السريع بالقفلة الذي يصل إلى أوكتافين 14 درجة، ثم تهبط بخفوت إلى 16 درجة دون أي نشاز، وهذا إعجاز كما قال الباحث.
في المرحلة التالية انضم بيرم التونسي ليقدم العمالقة الثلاثة 18 لحناً، عشرة منها من المطولات التي أثرت الغناء العربي منها: “حبيبي يسعد أوقاته، الآهات، الأوله في الغرام، أنا بانتظارك مليت، الحلم، الأمل”.
زخرفة إيقاعية
اختار الباحث منولوج أغنية الحلم أنموذجاً على التصاعد اللحني والاهتزاز الصوتي لأم كلثوم، ويسمى “منولوج” لأنه يشبه القصة من حيث البداية ثم العقدة ثم القفلة وهي النهاية المدهشة. تبدأ الحكاية بلقاء الحبيبين:
“قابلني وهو مبتسم، وقلي كلام القلب، بقي يقلي وأنا قله، حتى خلصنا الكلام كله”
وتمكن أحمد من تلحين هذا المقطع على مقامين.
في هذا المنولوج -كما ذكر الباحث- تمتع أحمد بموهبة رائعة بدت بالتغيير الواضح بين الآه الحزينة والآه الفرحة والآه الراقصة، وبدأ مباشرة بالجمل اللحنية الحادة المنسابة مع صور شعرية حالمة حاكها زكريا أحمد بزخرفة إيقاعية، مبتدئاً بالمقامات الطويلة مقام السوزنا، وهو مقام فرعي يتألف من رصد وحجاز.
وتصاعدت الذروة في مقطع: “وبقينا نقول بعنينا، روح مع روح تتجانس، وإيد مع إيد بتسلم سلام مشتاق لمشتاق” لينتقل أحمد إلى مقام السوزنك في تناغم الجملة اللحنية بين حالتي السكون والسكوت إلى أن تأتي النهاية المدهشة حينما تكتشف العاشقة أن كل شيء كان حلماً.
“يا ريت دام ودام نومي، كده أعوام، وأنا وهو في دي النشوة، نعيش بسلام، ولو ولو في منام”.
ملده شويكاني