ثقافة

الرواية الفلسطينية.. حوارات نقدية كتاب عن الذاكرة الفلسطينية في شكلها الأدبي

في كتاب “الرواية الفلسطينية.. حوارات نقدية” الصادر حديثاً للإعلامي وحيد تاجا وهو الأول من نوعه في مجاله ما يلبي حاجة ضرورية متعددة الأبعاد –كما جاء في مقدمته- فهو عمل توثيقي يمر على أكثر من عشرين كاتباً فلسطينياً يحاورهم ويعرّف بأعمالهم ويقارن بينهم بشكل صريح أو مضمر، ويربط بين كتاباتهم المتنوعة (والمأساة الفلسطينية) التي أنتجها تاريخ لا عدل فيه وتقاوم هذا التاريخ منذ أكثر من ستين عاماً بأدوات عادلة وإن كان العدل في المنتهى الأخير كلمة محدودة الحروف تحتكم إلى ميزان قوى.

كتاب الأدب الفلسطيني
يسد هذا الكتاب برأي د.فيصل دراج كما جاء في المقدمة التي كتبها له فراغاً واسعاً لا سبيل إلى إغفاله وتجاوزه، فقد بقيت الرواية الفلسطينية مشدودة إلى حقبة محددة بين الستينيات ونهاية الثمانينيات وإلى أسماء قليلة لامعة: غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وأميل حبيبي فيأتي الكتاب كما يشير دراج لينفتح على مساحة زمنية أكثر اتساعاً على أسماء عديدة متفاوتة القيمة والمنظور تتأمل ما كانت فلسطين وما ستكونه مستولدة الأمل من مواقع فعلية أو من أخرى يجاورها الوهم أو أشياء منه.
ويأتي في الكتاب أن الأسماء جميعاً تدور إلزامياً في ثنايا القضية الفلسطينية التي قد تتعرف بالكفاح المشروع واستبداد القوة، قبل أن تتعرف بمنتوج القضية ورموزها القديمة والجديدة ولهذا تعالج روايات الفلسطينيين بؤس المكان التي أسبغت عليه اللغة صفة المخيم، حيث المكان لا يسمح بالأحكام الواسعة وتتوقف أمام تجارب السجون حيث على الفلسطيني الحالم بالحرية أن يقيد إلى مكان ضيق شديد الحراسة، وأن يحتفظ بقوة الحلم التي تستقدم مستقبلاً متعدد الألوان، وبالتالي هناك الرموز التي تحيل على فلسطين وتحتضنها الرواية الفلسطينية كإشارات وطنية وفضاء جمالي في آن أكان ذلك في قصص محمود شقير المتميزة أم في “مدينة الله” التي كتبها حسن حميد بحرارة نادرة حيث القدس مكان مقدس وموقع وطني وهوية ثقافية تاريخية حدّث عنها جبرا إبراهيم جبرا في رواياته المتعددة. ونقرأ في الكتاب كذلك أن لكل أديب فلسطيني رمزه الخاص به مواقع الطفولة وظلال ثورة 1936-1939 وأهازيج القرى والفلاحين وذلك العشق لمدينة الصبا والشباب الذي يؤججه البعد، فبعد أن أسطر جبرا مدينة القدس رفع أنيس صايغ في سيرته الذاتية مدينة طبرية إلى حيز الجمال المطلق، وعاد شفيق الحوت إلى يافا في سيرة ذاتية قوامها أخلاق التذكر، مشيراً الكتاب: مع أن في أعمال الروائيين الفلسطينيين ما يستعيد أطياف مواقع مختلفة فإن أعمالهم جميعاً تحذف المسافة بين الذاتي والوطني وتتوسل اللغة لتجسر مسافة لا يمكن تجسيرها ذلك أن الموصوف الفلسطيني مزيج من معرفة متوارثة وذكريات مبعثرة يحاول القلم تحويلها إلى حكاية واحدة لها زمن مضى وزمن قادم محتمل، ويبدو في الجهد الواسع الذي بذله تاجا في حواراته أصوات متعددة، تجمع بين أدباء فلسطينيين تناثروا داخل فلسطين وخارجها وتوزعوا على تجارب متنوعة يخترقها المنفى سواء أكان الفلسطيني قد قُذِف به إلى خارج أرضه أم بقي في وطن مصادر تحاصره الأسلحة الإسرائيلية، مبيناً الكتاب أن لكل فلسطيني مخيم لم يتوقعه يعطيه بعض الملاذ ويسرق منه تاريخه ويدفعه إلى كلام مر المذاق يبرهن فيه أن له تاريخاً كالآخرين وأنه كان ذات مرة في مكان يُسمح له بالأحلام. وقد ساءل تاجا باجتهاد جدير بالإعجاب أصواتاً روائية فلسطينية متعددة في أجيالها وفي ثقافتها وفي منظورها، منتهياً إلى لوحة متكاملة يعثر فيها القارئ على ما يريد قوله الأدب الفلسطيني وعلى تقنيات القول ويقع على حوار واسع بين الأعمال الأدبية المختلفة حوار كثيف الأبعاد يحتاجه كل باحث مشغول بالكتابة الفلسطينية ويحتاجه أكثر كل الباحثين المشغولين بثنائية اليأس والأمل وقد أضاء تاجا في هذا الكتاب على موضوعين أساسيين لا يمكن معالجة الأدب الفلسطيني من دونهما: السلسلة الأدبية التي أوجدت هذا الأدب الممتدة من سميرة عزام إلى محمود شقير ومن حنا أبو حنا إلى حسن حميد والتي تشكل في أزمنتها المختلفة كتاب الأدب الفلسطيني الذي يحتضن الحزن والمقاومة والحرائق والآمال وتلك المآسي المتمادية المنتهية إلى نصوص متوالدة ذلك أن الوقائع السعيدة وهي بعيدة عن المسار الفلسطيني، تحتاج إلى نص واحد أو نصوص محدودة متناظرة وفي هذا الكتاب وهنا الموضوع الثاني ما يقترب من أدب المضطهدين، ذلك الأدب المقيد الذي يجبر المضطهد على كتابة وجوه اضطهاده بأشكال مختلفة دون أن يهجس إلا صدفة بقضايا الإنسان السعيد الذي لم يختلس أرضه وحقوقه أحد وفي ثنايا أدب المضطهدين يتلامح لزوماً كما جاء في الكتاب الأمل الذي يحتاجه هؤلاء الذين فقدوا الأمل ذات مرة.

الأديب ابن بيئته
بقي أن نقول أن كتاب “الرواية الفلسطينية.. حوارات نقدية” يفيد المعرفة الأدبية ويفيد الباحثين عن دلالة الوطن والمنفى والسجن والمخيم والكفاح المستمر وهو كتاب عن الذاكرة الفلسطينية في شكلها الأدبي، شاركت في صياغتها شخصيات إبداعية حاورها تاجا نذكر على سبيل المثال: سحر خليفة-محمود شقير-وداد البرغوثي-نزهة أبو غوش بعد أن قام بتصنيفها ضمن الكتاب في المجال الذي أبدعت فيه كالرواية وكتاب الأطفال والنقد الذي أجمع على أن الأدب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأدب العربي وأن الأديب يبقى ابن بيئته والكتّاب الفلسطينيون يحملون هموم قضيتهم وأمتهم أينما وجدوا مع إشارته إلى أن لا يوجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة دار نشر وطنية واحدة، فيعاني الكتّاب من عدم نشر أعمالهم مع تأكيده على أن المشهد الثقافي الفلسطيني في العقدين الأخيرين يعيد بناء المأساة وهو مشهد نشيط ومتحرك ومتنوع، ومع طرحه أساس الهوية والمصير فهو ذو ملامح تشاؤمية سوداوية ومحبطة وفيه يأس كثير وخيبات جمة.. هذه هي الصورة الكلية، أما في التفاصيل فهناك حركة نشطة جداً وواسعة في الإنتاج خاصة مع انتشار وسائل النشر والاتصال الحديثة.
الكتاب صادر عن دار الجندي للنشر والتوزيع (القدس) ويقع في 510 صفحات من القطع الكبير.
أمينة عباس