ثقافة

“تشويهات محتملة ” مشروع تخرج بمضامين مشوَّهة!

لم ينج مشروع تخرج طلاب السنة الرابعة في  المعهد العالي للفنون المسرحية –قسم الرقص “تشويهات محتملة” من الإسقاطات الواضحة القول والدلالة على حال الأزمة السورية والتي جاءت في سياقات العرض وفي بنيته الدرامية كمثل الخطاب الذي سمعناه في الشهور الأولى من بداية الأزمة التي تهز البلاد “الضغط هو ما سبب الانفجار” تلك المقولة التي قاربها الطلاب الخريجون بأدائهم المرسوم لهم بدقة من قبل “نغم معلا” مصممة العرض والمشرفة الدرامية عليه “نورا مراد” لا بانفلاتهم من أوزار ومشقة تنويط الفكرة بالحركة كما هو مفترض في حالة الرقص المعاصر الذي ينتمي العرض إلى جنسه، والذي يعطي للجسد حريته الكاملة بالخروج على ما هو سائد ومعروف من خطوات مرسومة لكل نوع رقص مختلف عن الآخر، حيث غابت مساحة الارتجال الحر عن أداء الطلاب الذي جاء مقيدا بالعديد من القيود التي حدت من قدرتهم على تقديم فرجة شيقة للجمهور، الذي ينتظر عروض الأكاديمية السورية للفنون المعروفة بحرفيتها وبراعتها في مخاطبة الجمهور، فجاء “تشويهات محتملة” محملا بالقناعات السياسية التي تمثل وجهة نظر المشرفين عليه، وبغض النظر عن كون هذا العرض قام بانحراف خطير عن مهمته الأساس، التي من المفروض أن ينصب جهدها على إظهار مقدرة الطلاب وخبراتهم التي اكتسبوها خلال سني الدراسة، والتي يأتي مشروع التخرج الخاص بهم بمثابة امتحان لتلك القدرات،بغض النظر عن هذا الانحراف الخطير كما قلت،فإن القناعات والآراء التي قدمها العرض كان من الممكن الخوض فيها في الشهور الأولى لبداية الأحداث، حينها لم يكن قد بان لمن التبس عليه الأمر الخيط الأبيض من الأسود، أما اليوم وبعد خمس سنوات من كشف جلي لمخطط مدروس لتفتيت البلاد، فإن حتى مجرد الخوض في طرح كهذا هو من أسباب استمرار المشكلة بأقل حد كي لا نقول شريك فيها.
السؤال هنا: هل عليّ كناقد أن أحاكم العرض كمشروع تخرج، أتحدث عن رشاقة الراقصين مثلا أو عن قدراتهم في تأديتهم لرقصة فيها انسجام بين الراقصين وبين الموسيقى وبقية العناصر السينوغرافية المكونة للعرض، حسنا، كانوا رشيقين في القفز على مقولات راديكالية  متطرفة رغم ادعائها العكس، لا ترى في كل ما قدمه الوطن لمطلقيها إلا العبث، إلا أن ما فات المشرفون على العرض أن الفن ليس ساحة لتصفية الخلافات السياسية، ويجب أن يخلص هذا الوسط من هذا الامتهان لرسالته، ومن كان من الصعب عليه إلا أن يدلي بدلوه في خلاف سياسي، فليذهب وينتسب لحزب ما أو يؤسس حزب ما أو يقف مع من يقفون في رتل الاستقواء على الوطن، وليجاهر بخطابه السياسي من هناك، لا من معاهد وأكاديميات هدفها الأساسي هو التعليم وتحصيل أسبابه!
المشرفة الدرامية على العرض “نورا مراد” وبعد سؤالها من قبلنا عن مقولة “تشويهات محتملة” الذي جاء برعاية وزارة الثقافة وقدمه كل من الطلاب “أحمد شعبان- رهف الشيحاوي-نورس عثمان” على خشبة سعد الله ونوس، أخبرت أن ما تريد قوله قالته على الخشبة، وهذا كلام حق، على اعتبار أن مجريات العرض ومقولته واضحة الدلالة والمقصد، وما سؤالنا للموظفة في الأكاديمية السورية للفنون “نورا مراد” إلا لرغبة في أن يكون ما وصلنا من مقولة العرض فيه شيء من عدم الدقة، خصوصا وان”تشويهات محتملة” هو مشروع تخرج لطلاب سيكون العرض بالنسبة إليهم هو بداية تعرف الجمهور عليهم ، ومن غير اللائق أن يكون مضمون مشروع تخرجهم الفني مضمونا ساقطا أخلاقيا، فمهما كانت سوية الأداء عندها، فإن هذا المضمون الهدام يضرب الانجاز الذي عمل هؤلاء الطلاب على تحصيله لأربع سنوات.
ارتكز “تشويهات محتملة” كما يقول البرشور على قصيدة لـ “يانيس ريتسوس” في تقديمه لقصة ثلاثة أجيال سورية تمر بالظروف ذاتها التي قدمها العرض وكأنها حقيقة وواقع من جهة تقديمها لحالة القسوة والظلم الاجتماعي والسياسي أيضا، إلا أن الجهد العالي الذي بذله الطلاب في اختراقهم للخطوط الحمراء المفترضة، وضعهم في صناديق ضيقة على أجسادهم، ومع كل حركة للخلاص من هذا السجن بما يعني السجن، ستتسبب بألم اكبر لهم.    لن يكل الطلاب عن النضال الذي سيخلصهم من القيد وسينجحون في ذلك، في إسقاط غير خفي عن ما شهدته البلاد في مطلع عام 2011 الأسود من محاولات للخروج من القمع الفكري والأمني الذي كان الناس يحيون فيه كما قال العرض طبعا، الكلام المعسول ذاته الذي سمعناه في بداية الأحداث السورية ممن رأيناهم فيما بعد يفاخرون بأنهم تنادوا لضربة عسكرية ضد بلدهم.
هنا لا بد من التساؤل عن السبب الحقيقي الذي يجعل مشروع تخرج ترعاه جهة حكومية “وزارة الثقافة” يخرج عن مهمته التدريسية الأساس، ليسوقه من اشرف عليه نحو تبنيه لمقولات باطلة لا تعبر إلا عن رأي صاحبها الذي لا يحق له إطلاقا أن يتبناها تحت سماء الوطن ومن منابره الرسمية، طالما أنها ساهمت في تشتت الشعب السوري وسوقه للذبح في غير زمان ومكان من عمر هذه الأزمة  السورية، عدا عن تجويعه بشكل ممنهج وإفقاره، لإرجاعه إلى مئات من سنين التخلف والجهل.
تشويهات محتملة مشروع تخرج يرتدي لبوس الإساءة لعذابات كل السوريين، بعد أن عمل القيمين على هذا المشروع الدراسي على تحويله إلى مكان لتصفية حسابات ضيقة، يعتقد فيها من سعى إليها أنه يسجل نقطة لصالحه ضد شركائه في الوطن، على حساب جهود طلاب لا ذنب لهم إلا أنهم يخضعون لامتحان لا يكرم المرء فيه أبدا.
تمام علي بركات