ثقافة

وأنت تبحث عن حياة

جلال نديم صالح
دوماً تلفتني عند مروره بسيارته الصغيرة ذات العجلات الثلاث، عبارة “وأنت تبحث عن حياة لا تنس أن تعيش” تلك العبارة التي كتبها بخط قبيح وحروف مرتجفة بطلاء أحمر على السيارة من الخلف. طبعاً اللون بهت والحروف تآكلت بفعل الشمس والمطر وعوامل الطقس التي لا ترحم، والتي فعلت فعلها بطلاء السيارة التي أصبحت فيها بقع الصدأ تتفوق على الأماكن التي يغطيها الطلاء الأزرق. عرفته منذ حوالي عشر سنوات وقد تجاوز الخمسين من عمره، وكان يجهز نفسه للتقاعد من وظيفته التي كانت بطبيعة الحال لا تأخذ من وقته سوى ساعتين في الصباح – لا أعلم كيف – لكن هذا ما كان يحدث، بعد هذا تبدأ رحلته اليومية في أرجاء المنطقة، يشتري الخبز اليابس والأشياء القديمة من مواد بلاستيكية ونحاسية،  وتستمر رحلته هذه صيفاً شتاء لا تعيقها أشعة الشمس اللاهبة أو برودة الشتاء وقسوته، لم أره يوماً إلا بتلك الملابس الرثة، التي لا أعتقد أنها غُسلت يوماً، وحتى إن حدث لا أعتقد أن بقع الأوساخ والشحم التي تراكمت بفعل الوقت يمكن أن تزول عنها. على كل هذا الشخص الذي يوحي مظهره بالبؤس والتعاسة يملك مساحات شاسعة من الأراضي في قريته، وثلاثة منازل وسيارة حديثة أراها دوماً متوقفة بجانب منزله، ولم أره يوماً يقود أي منها، وكان دائم الشكوى من الفقر حين يصادفه أحدهم ويسأله عن أحواله، ورغم تحذيرات الطبيب له بعد عدة وعكات صحية استمر في العمل وكانت الوعكة الأخيرة سبب وفاته، ولا أدري إن كانت حقاً هي الحياة التي أراد أن يعيشها فعلاً أم إنه أراد حياة أخرى وكتب تلك العبارة على السيارة، لكنه بعد فترة نسي أن ينظر إليها بعد أن شغلته الحياة. قابلت ولده الصغير منذ فترة ويبدو أنه إضافة لوظيفته اختار أن يتابع عمل والده. وفي لقائي ذاك حدثني عن والده الذي لم يعرف كيف يعيش على حد تعبيره، وكيف أفنى جسده في جمع الأموال ولم يتسن له الوقت ليستمتع بها، كما حدثني عن شقيقه الأكبر الذي سافر رغم حالتهم المادية الممتازة وكان من بين الذين ذهبوا في رحلة البحث عن حياة مختلفة، لكن للأسف كثر منهم غرقوا وفقدوا الحياة. المفارقة أن الكثيرين منهم فقراء فقدوا الكثير قبل أن يقرروا الرحيل. بعضنا اليوم جهد لجمع ثروة فاحشة ومن كانوا أغنياء أصلاً أرادوا زيادة ثرواتهم، في حين بعض الفقراء خرجوا من الذاكرة والتاريخ ببؤسهم. ترى هل  نسينا حقاً في زحمة البحث عن الحياة أن نعيش؟ وهل تعود تلك الحياة الجميلة التي لم نقدّرها يوماً إلى أن فقدناها؟ هل سندرك يوماً أن السعادة في أحد جوانبها تأتي من داخلنا مهما قست الظروف؟
بعد أن ابتعد عني بسيارته بعد ذلك اللقاء شاهدت تلك العبارة مجدداً على خلفية السيارة ولا أدري لماذا رأيت فيه نسخة مصغرة عن والده، وما اختلف هو ملابسه التي لم يبهت لونها بعد، ولم تتسخ كثيراً أو تتمزق بفعل مرور الوقت خلال رحلة البحث عن حياة.