ثقافة

فؤاد غازي.. في القلب يا أبا فادي

مرت ذكرى رحيل الفنان السوري الأصيل “فؤاد غازي” منذ أيام دون حدوث شيء يذكر، لم تخرس أقراص ال سي دي عن الدوران، لم تقف الموسيقا جميعها دقيقة صمت على أقدام نوتاتها بتواطؤ ضمني بين جميع آلاتها، لم يذهب كل أشباه المغنين للاختباء ريثما تغيب شمس ذاك اليوم الذي أغلق فيه ابن قرية “المسحل” بسهل الغاب عينيه على كروم عنب وينابيع فرح، منها تفجّر صوته المقدود من صخور وجبال وسهول.
أيضاً شاشاتنا وإذاعاتنا وجرائدنا المحلية نامت عن ذكرى هذا الرجل الذي صدحت حنجرته للوطن، كما صدحت للحب من: “يا بلادي زهورك نيسان”، إلى “جدولاتك مجنونة”، وغنت للزنود السمر والسواعد المفتولة، كما غنت للعيون الفاتنة والقد المليح، من: “يا معاملنا دوري”، إلى “لزرعلك بستان ورود”.
من يستمع إلى الأغاني الزاخرة بالحياة التي تضج بها حنجرة “أبي فادي”، يصعب عليه أن يتذكره إلا كما كان يراه، وهو واقف كشجرة سنديان، وصوته كرعد يقصف، فتندلع الأنهار، وتسيل الجداول.. فؤاد غازي الذي قدم فن العتابا الصعب كما لم يقدمه أحد، إن كان بالمواويل بديعة السبك الشعري التي كان يقولها ارتجالاً، كما جرت العادة عند شعراء هذا الفن الصعب والنبيل كقوله: “قتلتيني وعلى قبري ما حنيتي- الكفوف بغير دمي ما حنيتي- على قلبي برضابك ما حنيتي- قضى ظامي العطش وأصبح تراب”، أو بأدائه البارع، وصوته الهادر، وحتى في تطويعه لجمل لحنية صعبة الأداء كـ “الأوف” الشهيرة التي كان يقولها، وكأنه جبل يطلق براكينه، وهو على تميزه في هذا الفن الذي لا يخوض به إلا كل صاحب صوت قوي وأليف في آن، إلا أنه أيضاً ذهب نحو خيار غناء الأغنية العاطفية والوجدانية، وهنا أيضاً لن تغيب أصالته عن هذا اللون من الغناء في اختياره الدقيق لكلمات الأغاني التي سيغنيها، وكان من حسن حظنا أن استمعنا منه إلى: “ما ودعوني”، و”تعب المشوار”، وغيرها من الأغاني التي تميزت أيضاً بسبكها الشعري الأنيق، والتي سيؤديها من بعده العديد من الفنانين المحبين لهذا اللون، كونها تشبع حواسهم كلها، من الجملة اللحنية جميلة الوقع، إلى الكلمات المنتقاة بدراية ومهارة وإحساس مرهف.
لست مستغرباً على أية حال هذا الجحود لهذا الفنان السوري الأصيل، فما نراه من ميوعة وتلميع دائم للمغنين أيضاً، يجعلني أدرك أن كل يوم يمرّ تصبح فيه ذاكرتنا الإنسانية والوجدانية والوطنية أقل وفاء للذين كانت حيواتهم منارة بما يبدعون.
فؤاد غازي.. يمر بنا الموت كل يوم يا أبا فادي، نراه ونجلس معه، نسقيه الشاي، ونطعمه الزبيب والعسل، وفي كل مرة نسائله عن حال الأحبة والخلان والعمالقة، يقول لنا: هؤلاء لم أستطع أن أصطحبهم معي، من كان كمثل هؤلاء، صعب على الموت أن يدثر نومتهم العميقة ولو بعد حين.

“ضلوا ذكرونا بمرحبا”
“فؤاد غازي” مطرب سوري من جيل الثمانينيات، أعلى من شأن الأغنية السورية بمختلف أنواعها: (الطربي، الشعبي، العاطفي، وغيرها)، مغنياً ألحان أهمّ روّاد اللحن في سورية: (سهيل عرفة، عبد الفتاح سكر) الذي لحّن له الأغنية الخالدة: “لزرعلك بستان ورود”، تلك التي ردّدتها الأجيال بعده بالزخم ذاته والتوق والشغف نفسه، ليصبح غازي من العلامات الفارقة والنادرة في تاريخ الأغنية السورية، أخذه صوته وشخصيته الطيبة القروية الأليفة صوب مطارح أخرى لم يكن يفكر فيها الفنان الذي ارتجت خشبة المسرح تحت صولات آهاته ولياليه القوية، لنراه في فيلم “نجوم النهار” للمخرج أسامة محمد، ولنشاهده مطرباً وممثلاً خجولاً في فيلم “حارة العناتر”، إلا أنّ البرية التي تسكن في داخله ونفسه وصوته، أبت عليه إلا أن يكون، كما أرادت له الطبيعة، جبلاً من جبالها الشامخة، وسهلاً مترامي الأطراف من سهولها اليانعة، توالت أغانيه المحبّبة التي أثبتت، يوماً بعد يوم، إمكانية صوته الهادر في أن يؤدي كافة أنواع الغناء، فغنّى العديد من الأغاني التي اتّسمت بالرقة والوجدانية والعاطفة والحنين، ومنها: (ردّي الغرّه، مرجحنا يا بو المراجيح، صبر أيوب، ما ودعوني، صفّ الفشك، بستان ورود، يا زمان، حليانة كتير، تسلملي العينين السود، يا أمّ النظرات الحلوة، شعرك دهب، لالا ع فراقك، تعب المشوار)، كما أنه أدى مجموعة رائعة من الأغاني الوطنية التي تركت بصمة في تاريخ الأغنية الوطنية، مثل: (يا معاملنا دوري، شام الورد، زفّوا العساكر)، وغيرها من بديع ما صدحت به روحه قبل صوته.
تمام علي بركات