ثقافة

في ذكرى رحيله الشاعر محمد البزم ظلم نفسه حياً وظلمناه ميتاً

لأن من أحيا ذكرَ علَم من أعلامنا، يكون قد أحيا ثقافة بكاملها، كان من الضروري الاحتفاء بشاعر الشام محمد البزم في ذكرى رحيله، وقد رأى الباحث غسان كلاس الذي شارك في احتفاء المركز الثقافي في «أبو رمانة»، بهذه الشخصية السورية الوطنية، أن الاحتفاء هو نوع من الوفاء لها، والوفاء برأيه ليس بأن تخطر شخصية من الشخصيات على بالنا فقط، فنؤكد أننا لم ننسَها، وإنما هو أمر ضروري ليستلهم الجيل الحالي من مسيرتها كيف أن التعب، والسعي، والعصامية هي التي تخلق رجالاً حقيقيين، شاكراً الإعلاميين والكتّاب الذين كرّسوا جزءاً كبيراً من وقتهم لتسليط الضوء على شخصياتنا السورية التي كان لها تأثير كبير على مجتمعها، مثل عبد الغني العطري الذي استطاع من خلال موسوعته “العبقريات” أن يتناول مسيرة حياة نحو 150 شخصية، وهو بذلك– أي العطري- يكون قد انتهج نهج خير الدين الزركلي في موسوعته التي سلّط فيها الضوء على عدد كبير من أعلامنا.

في العشرين ولا يعرف القراءة
ولأن البزم لم يدرس في المدارس، ولا في الجامعات، فقد ثقَّف نفسه بنفسه، فاستحق العصامية بكل جدارة، وقد وصل لمراتب عليا بفضل عصاميته واجتهاده الدائم، مبيّناً «كلاس» أن البزم عمل في أكثر من موقع غير نظم الشعر، ومع ذلك غلبت عليه صفة الشاعر، لأن كتابة الشعر موهبة لا تُدرَّس في المدارس والجامعات، والشهادات والتخصصات لا تخلق شاعراً، فالموهبة تولد مع الشاعر وتكبر معه، ومن خلال تقليبه لصفحات ديوانه اليتيم، لم يجد كلاس في قصائده إلا الشعر الوطني، مؤكداً أن احترامنا لهذه الشخصية يجب أن يكون أضعاف احترامنا للأشخاص العاديين الذين تنقلوا في المراحل الدراسية جميعاً، فالبزم الذي قارب على سن العشرين ولا يعرف القراءة تعب وثابر للّحاق بما فاته من تعليم حتى وصل إلى أن يحمل صفة عميد اللغة وجهبذها، فكان أستاذاً لعدد كبير ممن تعلّموا في الأزهر، وجامعتي الزيتونة والقيروان، ولعدد آخر من اللغويين الكبار، واستطاع أن يناقشهم ويجابههم، وهو الذي اختصر تعليمه على الكتّاب، وارتياد المكتبة الظاهرية، وقراءة الكتب بصحبة خير الدين الزركلي صديقه الحميم، منوهاً «كلاس» إلى أن أول كتاب قرأه البزم كان “المستطرف” الذي عكف على قراءته أكثر من عشرين مرة، مستمتعاً به، موضحاً كذلك أن البزم تتلمذ على أيدي أساتذة كبار كان قد أحبهم كالمتنبي، وامرئ القيس، وقد كان رجلاً موهوباً يتمتع بخاصية امتصاص المعلومة، وتمثّلها ليعطي أفضل منها، لذلك لم تقتصر إبداعاته على الشعر فقط، فقد كان ناقداً اجتماعياً من الطراز الأول، كما كان قارئاً للحِكَم المبثوثة في بطون الكتب في المكتبة الظاهرية، فكانت الزاد الذي مكّنه من كتابة ما سمي بـ “الأجوبة المسكتة” التي لم تكن شعراً، وإنما عبارة عن مقاطع اقتباسات من تاريخنا الأدبي والاجتماعي، وقد سميت بـ “الأجوبة المسكتة” لبلاغتها.
وختم كلاس كلامه منوهاً إلى أن البزم ظلم نفسه حياً، وظلمناه ميتاً، داعياً الجميع إلى رفع الظلم عنه من خلال الاهتمام بآثاره لترى النور، خاصة أنه لم يكرّس وقته لطباعة آثاره، معترفاً في الوقت ذاته بأننا مقصرون في إحياء ذكراه، وذكرى الكثيرين من أمثاله، لذلك نوّه كلاس إلى أنه اليوم بصدد إعداد فيلم وثائقي للتلفزيون يلقي  فيه المذيع جمال الجيش بصوته الجميل مختارات من قصائد البزم، ويتناول مسيرته الحياتية والإبداعية، كما أن الهيئة العامة السورية للكتاب ستقوم بإصدار “الأجوبة المسكتة” ضمن كتاب في الفترة القادمة.
دمشق درّة شعره
أما أ. زهير ناجي، وهو الذي يستعد لإصدار كتاب عن البزم، فبيَّن أنه كأستاذ للتاريخ حين يقرأ شاعراً ما، فإنما يقرؤه من الناحية التاريخية، لأن الشاعر الأصيل برأيه خير معبّر عن عصره، حيث يمكن أن تكون قصائده الشعرية وثائق سياسية، وهذا ما ينطبق على قصائد البزم، مبيّناً أنه جمع في هذا الكتاب عدداً كبيراً من الشهادات، كانت أقدمها شهادة مختصرة لصديق عمره خير الدين الزركلي، بالإضافة إلى شهادات أخرى هامة، والشهادة التي كتبها البزم عن نفسه من قلب مجروح، وهو الذي فُتِن بالعروبة، وانساق مع الشباب الوطنيين الذين كانوا في مكتب عنبر يحلمون بوطن وأمة ومستقبل دون أن ينسوا الماضي، فكان البزم صانعاً من صنّاع الأمة العربية لإيمانه بها وبلغتها وبمبدعيها وأبطالها، ثم كانت أحزانه عليها مما آلت إليه الأمور، فبعد أن رحّب بالثورة العربية الكبرى خاب ظنه ثانية حين اكتشف أن الشباب الذين صفقوا لها وشاركوا فيها هم غير قادتها الذين كانوا مرتبطين بالأجنبي، لذلك سُجِن لأنه نظّم قصيدة رائعة شتم فيها المتعاونين مع الفرنسيين:
لا ترهقوا العرب فالعرب الكرام لهم     إن أرهقوا وثب الضرغام غضبانا
دعوا الشآم وخلوا القاطنين به             ويمموا غير ذي الأوطان أوطانا
أما دمشق فكان البزم عاشقاً من الطراز الأول لها، وقد ترجم ذلك من خلال قصيدة غاية في الروعة، فكانت درة شعره، وقد تحدث فيها عن بني أمية، والجامع الأموي، والغوطة، وبردى، وكل معالم دمشق:
رفعت على حرم الخلود بنودا                ومضت تحلق في الإباء صعودا
ألقت إليها الأرض مقود أهلها                 ورمت إلى أبطاله الاقليدا
تجري العروبة في نفوس رجالها             مجرى النفوس ترائباً ووريدا
وأسف ناجي لأن البعض كتب عن البزم أشياء سيئة لنقص فيهم حين وصِف بأنه كان كارهاً للناس وحاقداً على الأحياء والأموات، وهذا كله برأي ناجي غير صحيح، إلا أن الفعل الخطأ كان يولِّد عنده ردة فعل قاسية.
وخُتِم الاحتفاء بالبزم بكلام مقتضب لحسان البزم، ابن الشاعر الذي أشار إلى أن الكثير من شعر البزم الوطني قد أُتلِف من قبل والدته التي كانت تخاف عليه من بطش العثمانيين والفرنسيين، أما البزم كأب فينوّه حسان إلى أنه كان حنوناً، وشخصية فذة، ويكاد لا يتذكره إلا مريضاً، وقد توفي وهو في عمر 12 سنة.
أمينة عباس