ثقافة

موسمُ الذّكرى ..موسم المحبة والعطاء

إنّهُ موسمُ القطاف، تنحني الأغصانُ من ثِقَلِ النّضج، مُقتربَةً من الأرض في مشهدٍ عاطفيّ، يذكّركَ رغم توهانكِ في زحامِ الحياةِ، بالتواضعِ، والعطاءِ بلا حدود. شُجيراتُ الزّيتونِ تقفُ في خطوطٍ متوازية، كأنّها سطورٌ على دفترٍ قديم، وما بينَ السّطورِ حبّاتٌ متناثرةٌ هنا وهناك، كأنّها المعنى المُستَتِرُ النّاضج. كلّ شجرةٍ لها مساحتُها، ظلّها، امتدادُ جذورِها، هواؤها، نصيبُها من المطر، وحصّتُها من خيوطِ الشّمس، لا غُصنَ يعتدي على براعم مجاورة، لا جذرَ يسرقُ الرطوبةَ من جذرٍ آخرَ قريب، لا نزاعَ على حدودٍ، لا اقتتالَ على حبّاتٍ مُهاجرة، لا مُلكيّة، لا تمييزَ بين الشّجيراتِ حسبَ لونِ الحبّةِ أو غزارةِ الإنتاج، لا شُجيراتَ مُضّطهدة وأخرى مُستفيدة،  تعايشٌ قدريّ حتميّ دونَ قوانينَ وأنظمة، الطبيعةُ هي الحَكَمُ.
ربّما ليست مقارنةً عادلة، تلك التي نرسمها ما بين مجتمعِ الشّجيراتِ ومجتمعٍ إنسانيّ، لكنّنا لو نظرنا مليّاً إلى الطبيعةِ ونظامِها المُتقن والفريد، لاكتشفنا أننا كبشرٍ، قد ابتعدنا مسافاتٍ شاسعةً عن كلّ ما هو طبيعيّ رغم امتلاكنا ما لا تمتلكهُ تلك الشّجيرات، العقل. العقلُ الإنسانيّ أرشدنا إلى تنظيمِ الشّجيرات، إلى الاهتمام بها وتقليمها، إلى زيادة إنتاجها بأنظمةِ الرّي والتدفئة. لكّننا ما استطعنا أن نستفيدَ من هذا العقل ذاته في مجتمعاتنا البشرية، كأن نلتزمَ بمبادئ وقوانين تنظّم حياتنا، تهتمّ بنا، تُنصفُنا، تمنعُ التعدّي وتقسّمُ الأرزاقَ وتُرضي الجميع. الحسد، الطّمع، الغيرة، الحقد، الانتقام، الرّغبات، في داخلنا الكثير الكثيرُ من الانفعالات الإنسانيّة، تلك الّتي تميّزنا عن بقيةِ الكائنات وتُبعدنا حتماً عن أيّةِ مقارنةٍ مع مجتمعاتٍ طبيعيةٍ مجرّدة. إنّهُ موسمُ القِطاف، الأسواقُ في مدينتي خاوية، البيوتُ خلتْ إلا من فردٍ أو اثنين، أراضٍ تمتدّ على مساحاتٍ كبيرة، تضجّ بالضّحكاتِ، والأحاديث أثناءَ العمل. أناسٌ من قُرى مختلفة يعملونُ في أراضٍ مجاورة، صوتُ المؤذّنِ يدعو إلى صلاةِ الجمعة، بعد أن زفّ خبر استشهادِ بطلٍ جديد.أخبارُ الحربِ على الإرهابِ حاضرةٌ بقوّةٍ في كلّ الأحاديث، قصصُ البطولاتِ تُتلى على مسامعِ الأطفال، ذكرياتُ قطافٍ من زمنٍ غابرٍ تُعيدُ أصواتَ مَنْ رحلوا، وتُجبرُ العيون على ذرفِ دمعةِ شوق. إنّهُ موسمُ قطافِ الزّيتون، والأملُ على كل الألسُنِ بقربِ موسمِ قطافِ النّصر. إذ لطالما رَمَزَ غصنُ الزّيتونِ للسّلام والأمان، وعاندتْ أشجارُهُ ملاحمَ الطبيعةِ وتقلّباتِها، وأصرّتْ على التشبّثِ بالأرضِ لمئاتٍ من السّنين، معلّمةً أجيالاً متلاحقةً معنى الصّبر والصمود والوفاء. هذه الأرضُ الّتي مرّ فوقَ ترابِها الكثيرُ من الغُزاة، وما سلّمتْ عذريّتَها إلا لأجسادِ شهدائها، وأيدي فلّاحيها ، ومعاولِ مَنْ رهنوا حياتَهم وتعبَهم للعيشِ الحرّ الكريم. هذه الأرضُ الّتي تُوقِظُ الصّبحَ، وتُشعلُ النّارَ في موقدِ الشّمس، وتدفعُ عجلةَ الرّيح كلّ هبوبٍ، وتستمطرُ من السّماءِ الأمل. هذهِ الأرضُ الّتي على أكتافِها نقلَ التّاريخُ قصصَ الماضي إلى آذانِ الحاضرِ المُصغي بدهشة، وحَمَتْها الجغرافيا من شرذمةٍ عنيدة. تختلطُ المشاعرُ وتتكاثرُ الانفعالات، ذكرياتٌ عمرُها سنواتٌ كأنّها تحدثُ الآن. هنا جلسَ الشّهيدُ يستريحُ بعد عناءٍ وتعب، هنا زيتونةٌ زرَعَها، هنا غصنٌ مازالَ يحتفظٌ ببصمةِ أصابعه، هناكَ على سفحِ الجبلِ المُقابِلِ تأمّلَ غروبَ الشّمس، هنا تجعّدتْ أصابعُ الجدّ وتركتْ على خدّ الصّخرةِ آثارَ دماء، هنا كان يُزرَعُ الفول والبازلّاءُ والحبّ، في ظلّ تلك الزيتونةِ الكبيرةِ سالَ عرقٌ طاهرٌ، وغرّدتْ تنهيدةٌ مواويلَ التّعب. لا مفرّ من الذّكرى، لكأنّ هذه الأرضَ تستفزّ الذّاكرةَ لتنضحَ بالماضي، لكأنّها هي الّتي تحنّ إلى الراحلين، تستخرجُهم من ذواتِنا، لتراهم على ملامح وجوهنا الشاردة. الوقت يمرّ والأشجارُ باقيةٌ، ثابتةٌ، راسخة. السّنينُ تُلقي حمولةَ أحداثِها، ومآسيها، وربّما زغاريدَ أفراحِها، والأشجارُ واقفةٌ، ثابتة، لا يُغريها الرّحيل ولا تشدّها ألوانُ الأفقِ، ولا تعنيها صرخاتُ الموتِ من كلّ حدبٍ وصوب. تتعرّفُ كلّ موسمٍ على أناسٍ جُدد، تسمعُ أصواتاً مألوفةً، وأخرى حديثةَ الولادة، تداعبُ وجوهَ الأطفال كأنّها تسألهم عن أسمائهم، عن أجدادهم، عن غائبٍ ما، عن شوقٍ إلى لمسةٍ وعَرَقٍ وقبلة. الوقتُ يمرّ والخيرُ يبقى، لكأنّ تلك الشّجيراتِ تعهّدتْ بإطعامِ أجيالٍ من خيراتِها، وأبتْ إلا أن تؤدّي رسالتَها إلى الأبد. إنّهُ موسمُ القطاف، موسمُ الأمل، موسمُ العودةِ إلى الطبيعة بكلّ ما تعنيهِ العودةُ من رجوعٍ إلى البساطةِ والهدوءِ والتأمّل. الطبيعةُ الإنسانية أعني بكلّ ما فيها من تعاونٍ، وعملٍ مشتركٍ، وخيرٍ، ومحبة. لو أنّ للإنسانيّةِ موسماً كما للقطاف، لو أنّ للتسامحِ موسماً، وللعفوِ والصّلحِ موسماً واحداً فقط، كنّا حينَها شاركنا تلك الشّجيراتِ أعراسَها، وملأنا بيادر الوطنِ محبّة.
وسام محمد ونوس