ثقافة

لــــن أتــحــرّرَ مـــن جــيـلــي

أنتَ لا تعرفُني جيّداً, ربّما تحكمُ عليّ من بعيدٍ, من شكلي, من ثيابي, لكنّك لا تعلمُ كم من الأحداثِ الّتي عشتُها وعاشتني قبل أن ألتقي بك, لا تعلمُ كيفَ ولدّتُ, وأينَ نشأتُ, وماذا أكلتُ, وماذا سمعتُ ورأيتُ وتعلّمتُ, وبمَ حلمتُ! لا يمكنكَ أن تهملَ كل هذا الماضي الحيّ أبداً على جبينِ الذّاكرة, لا يمكنكَ أن تراني معزولاً عنه, كقطعةٍ أثريةٍ لا يعلمُ أحدٌ تلك اليدَ الّتي أبدعتْها.
أنتَ لا تعرفُني, لا تعلمُ كيف تكوّنت شخصيّتي على امتدادِ مراحلِ عمري, وما هي المبادئ الّتي انغرستْ في داخلي كأشجارٍ دائمةِ الخضرة, ولا تعرفُ أيّ شيءٍ عن ثقافتي, هويّتي, حبّي, بكائي, صبري, فقري, ملامح الرّوح.
أنا من جيل راديو الجيب, وإذاعة مونتي كارلو, وأغنية أم كلثوم مساءً على إذاعةِ الشّرق, ومحطات الإف أم اللبنانية, وأغاني عصمت رشيد بين شوطي مباراة الدوري السوري يوم الجمعة! أنا من جيل التلفاز القديم الذي يعمل على ضربةِ كفّ, والأنتينات الهزّازة مع الرّيح, وفسحةُ الأغاني, والتهاني, وسلامات أبو محمد وأم علي في برنامج ما يطلبه الجمهور, ومذيعات (LBC) الجميلات في برنامج (نهاركن سعيد)! أنا من جيل القناة الثانية في التلفزيون السوري, ومحاولتها إقناعي بأنني مشاهدٌ مثقّف وجديرٌ بالاحترام, ومن جيل افتح يا سمسم, والكابتن ماجد, ونيلز, وبسيط, وقصص عالمية, والسنافر!
أنتَ لا تعرفني جيّداً, أنا من جيلِ السّهراتِ الصّيفيّة باعتبارها وسيلةَ تواصلٍ اجتماعيّ, من جيلِ الكتابِ بسموّهِ وصعوبةِ امتلاكه, من جيلِ الشّعر بتصنيفهِ الأبهى كديوانٍ للعرب, من جيلِ الخجلِ, والعيبِ, والحرامِ, والحلالِ. أنا من جيلِ البكاءِ على خسارةِ مباراةِ كرةِ قدم, من جيلِ الفخرِ بسوريّ في محافلَ عالمية, من جيلِ الهاتف (أبو قرص), من جيلٍ تربّى على تناولِ أغاني فيروز مع حبّاتِ الزّيتونِ على موائدِ الفطور. أنا من جيل باصات الهوب هوب, والهواء العليل على متنها, ومن جيل راقصات إعلاناتِ المحارم, وانتظارهنّ يومياً كمقاطع ترفيهيّة بين فقرات مسلسل السهرة!
أنا من جيل الصّور, والتأمّل بدهشةٍ في ألوانِها, من جيلِ رسائل الغرام بالواسطة بين هذا وتلك في المدرسة, من جيلِ النّظام المنضمّ, والدّروسِ الّتي لا تنتهي, والأستاذ السّامي إلى مرتبة إله!
أنا من جيل الراتب الواحد للأب والأم العظيمة المعطاءةِ في البيت, من جيلٍ كان فيه الموز أكلَ الأكابر والأغنياء, من جيل (البيضة بليرة), من جيل (الحليب المقطوع بسبب الحصار), من جيل الدّيون, والماء المتساقط من سقوف البيت, من جيل الغرفةِ الواحدةِ للدراسةِ, والأكل, والنوم, والغناء, والإنجاب!
هل بدأت تعرفني أيّها الغريب؟ أيّها الجالسُ في غرفةِ فندقٍ يطلّ على نهرِ, أو برجٍ, أو تمثالِ حرّيةٍ مسبيّة, تشربُ قهوتَكَ, وتطلقُ الصّفات, والنّعوت كما شاءتْ لك جيوبُكَ الجائعة؟ هل كوّنتَ بعض الملامح عن شخصيّتي؟ ربّما لم تفهم بعض الأمور بحكم كونِها محلّيةً جداً, لكنّك بالتأكيد فهمت الإطار العام للظّروف التي نشأتُ فيها أنا وأقراني. كنّا ومازلنا نحاول العيشَ (وما أضيقه) لولا فسحةُ أملِ الرّوحِ بآتٍ أفضل, كنّا ومازلنا نريدُ أن نكون, أن نكبرَ على ما تربّينا, أن نعوّضَ بنجاحنا مَنْ فنى حياتَهُ في سبيلِ أن نصل. كنّا ومازلنا نخوضُ الحروبَ الصّامتة, تلك الّتي لا تظهرُ فيها جثثُ القتلى, ولا يُعرفُ في نهاياتها مُنتَصر, لأنّها حروبُ الذّاتِ على النّفس, حروبُ الإرادةِ على العجز, حروبُ الخيالِ الحالمِ على الواقع. أنا لا أحتاجُ أفكارَكَ العبقريّةَ لأتعلّم الحياة, فقد صنعتُها بيديّ هنا وأحاولُ الحفاظَ عليها بعيدةً عن فضولك. أنا لا أنتظرُ كلماتِكَ العابرةِ للقارّات كي أخرجَ من جلدي إلى عُريك, أنا لستُ قاصرَ العقلِ لتُمسكَ بيدِ ذاكرتي قاصداً اقتيادي إلى مهبّ النّسيان. أنتَ لا تعرفُني , لكنّك حدّدتَ لي هامشاً ضيّقاً , إن لم ألتزم به فقدتُ إنسانيّتي , وحقوقي, وحياتي. أنتَ لا تعلمُ شيئاً عنّي, ومع ذلك افترضتَ ما أنا عليه, ورسمتَ في خيالكَ ما صدّقْتَهُ بعد حين, وبنيتَ على ترّهاتِكَ مسارَ عمري. أنتَ لا تعلمُ, ومن ذا الّذي يحاول في هذا الزّمنِ أن يعلم؟ أنا من جيلٍ رسمَت أقلامُ رصاصهِ خارطةِ الوطن, حتّى حفظتْها العيونِ عن ظهرِ نظرة. أنا من جيلٍ يحبّ الحياةَ ويُرخصُ إليها الصّبرَ سبيلا. أنا من جيلِ (تحيةِ العلم), واعتيادِ الرّقصِ على أنغامِ الألم, من جيلِ مقارعةِ الرّيحِ على طولِ الدّربِ الفاصلِ ما بين الخطوةِ الأولى والميلِ الألف, فكيفَ لكَ أيّها الآخرُ البعيدُ عن ملامسةِ السّماءِ بين جفنيّ, كيفَ لكَ أن تحرّرَ نظراتي من التّحليق؟ كيفَ لجهلكَ أن يحرّرني من جيلي!
وسام محمد ونوس