“بانتظار الخريف” انبعاث الحياة من الموت بدافع الانتصار
أمطار الخريف التي تنعش الأرض العطشى وتعيد إليها الحياة كانت شاهداً في فيلم “بانتظار الخريف” عزفت نغماتها الرقيقة أحداثه المستمدة من الواقع الذي تعيشه سورية.الفيلم الذي حصل على جائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (2015)، والذي قال مخرجه جود سعيد قبل العرض الأول في صالة سينما ستي في دمشق: إن عدد الحاضرين الذي فاق التوقع كان أهم من الجائزة لأنه يعبّر عن دمشق التي تنبض بالثقافة والسينما في الوقت الذي تتعرض فيه سورية للاعتداء.
وقد تعمق فيلم “بانتظار الخريف” -إنتاج المؤسسة العامة للسينما بالتعاون مع شركة آدمز برودكشن -بالجرائم التي ترتكبها الجماعات الإرهابية المتمثلة بداعش وتنظيمات أخرى، وما يتضمنها من خطف وقتل وقنص عشوائي يطال الأبرياء،لنصل إلى رسالة الفيلم التي تؤكد على إرادة الشعب السوري المحبّ للحياة وعلى صموده وتحديه كل المؤامرات والإملاءات الخارجية التي تتدخل بتحديد مصيره، فتعلن بطلة الفيلم سلاف فواخرجي:”إن الموت ممنوع، وإننا يجب أن نحيا لننتصر”
الأمر اللافت أن روح المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي شارك بكتابة السيناريو وكان أحد أبطال الفيلم خيمت على المنحى العام للفيلم من خلال تفاصيل البيئة الساحلية واللهجة المحكية، وإفراد مساحة كبيرة للطبيعة الساحرة لاسيما في خلفية المشاهد، والأكثر من ذلك التطرق بجرأة إلى السلبيات الموجودة في مجتمعنا، وفضح أساليب بعض المتنفذين لتحقيق مآربهم الخاصة، إذ يوجد تقاطع كبير بين شخصية المسؤول عن الحاجز (أبو دلامة) وبين مدير المدرسة في فيلم العاشق، نرى سلوكيات حادة وخاطئة في شخصية كل منهما تعمل على قمع الآخر وإهانته.
لكن المثير في فيلم جود سعيد أنه أدخل الحلول إلى مشاهد فيلمه والتي تتمثل بمحاسبة أولئك المتنفذين وإعفائهم من مهامهم ومعاقبتهم بالسجن، وفي الوقت ذاته جسد بحلوله بعض المتورطين بالانضمام إلى داعش بإعادتهم إلى صوابهم، كما في إعادة ليلى إحدى نساء داعش إلى بلدها تونس، وإعادة رامز إلى أهله، وفي منحى آخر ركز الفيلم برمزية أيضاً على الشائعات والتضليل الإعلامي الذي يحاول نشر الفتن وإثارة الرعب في فترة التهديد بالاعتداء الأمريكي على سورية، والإساءة أيضاً إلى أحد ضباط الجيش العربي السوري الكبار بنشر شائعة انشقاقه. كل هذه الأحداث تتعاقب ضمن الرؤية الإخراجية لجود سعيد بإظهار صورة جمعية للشخوص لتتشابك الحبكة بينهم، كما في فيلم “صديقي الأخير” الذي اتسم بالانتقالات السريعة للمشاهد، بينما مضى فيلم بانتظار الخريف بمسارين، مايحدث بالضيعة في جانب، وفي الطرف المقابل ما يحدث في معسكر داعش. تخترقهما فواصل تصوّر حجم الكارثة بالدمار لعدد من المناطق القريبة من حمص وما حولها.
التأهل لكأس الجمهورية
يبدأ الفيلم بأحد مشاهد النهاية لحظة موت البطل المخطوف من قبل داعش المخرج محسن (كامل نجمة) وهو يردد:”أشعر بحبّ كبير لوطني يجعلني أعيش بعد أن أموت” لتنتقل الكاميرا إلى الشجرة المتفرعة التي كانت بطلة أساسية في الفيلم والتي تدل على التشبث بالجذور وبالوطن.
ثم تعود الكاميرا بالفلاش باك إلى الضيعة المنسية التي تقع قرب قلعة الحصن التي يقطنها عدد من السكان من طوائف وأديان مختلفة يجمعهم الحبّ للوطن والدفاع عنه بنشر ثقافة الفرح بدلاً من ثقافة العنف، لتمضي الأحداث بأجواء مرحة وطريفة وجميلة بتألق أداء الشخصيات الأساسية، عبد اللطيف عبد الحميد بدور أحد ضباط الجيش العربي السوري المتقاعدين (أبو غازي) وبشار إسماعيل الذي تألق بدور أحد الأعيان (أبو معن) والرائعة سلاف فواخرجي نبال مديرة المدرسة ورئيسة الفرقة الحزبية والمسؤولة عن فريق لاعبات كرة الطائرة، الأنثى التي آمنت بالشعارات وجسدتها على أرض الواقع من خلال مواقفها.الضيعة التي أظهرت صورة عن النسيج الاجتماعي المتعدد والمتوافق وعن التلاحم الديني الذي نعيشه في سورية من خلال حكايات تتفرع وترتبط بحياة اللاعبات الشخصيات المساندة، إضافة إلى خيط رفيع من الرومانسية رافق الأحداث بالعلاقة العاطفية التي تربط بين نبال و(أبو غازي) الذي توفيت زوجته منذ سنتين، تلتقي مع قصص حبّ شابها ألم الانتظار والخوف من المجهول.
الغرفة الحجرية
تتصاعد الأحداث مع المشهد الحاسم للمباراة الذي ينتهي بفوز فريق الضيعة وتأهيله لكأس الجمهورية، لتنتقل الكاميرا إلى بداية الخيط للطرف المقابل لحظة اختطاف محسن المخرج زوج حلا إحدى اللاعبات والتي تعمل مراسلة إثر اجتياز الحافلة الصغيرة أحد حواجز التنظيمات المعادية، فيعرّف محسن نفسه على أنه الضابط ليحمي الضابط الشاب الذي جسد دوره جود سعيد، ليُلقى القبض على محسن ويودع بالغرفة الحجرية الصغيرة ويتعرض للاستجواب والتعذيب بأساليب متعددة كربطه من ساقيه وتدلي رأسه نحو الأسفل.ينتشر الخبر عن طريق الفيس بوك فتشترك اللاعبات في رحلة البحث عن محسن لتتضح شيئاً فشيئاً الحكايات التفصيلة، الشاب أحمد الذي ترك المسرح وسكن بالضيعة ليكون قريباً من حبيبته روزا ابنة (أبو معن)، وغازي الذي ترك الجامعة والتحق بالجيش للدفاع عن الوطن وترك خطيبته التي تنتظره كل خميس، ونسرين التي تحب (أبو معن)، والطبيبة نور ابنة (أبو غازي) التي استشهد حبيبها وترفض حبّ “صادق”، وشخصيات أخرى، وتدور الأحداث بزعامة (أبو غازي) المحمّل بطاقات إيجابية كاملة وبين (أبو معن) الشخصية التي تحمل جوانب من الخير والشر الذي يبدو في مواقفه تجاه الضيعة المجاورة، المشهد المتكرر في الفيلم هو المائدة الخشبية الطويلة التي يتجمع حولها على العشاء أهل الضيعة، يتبادلون الحوارات ويحللون الأحداث، والذي يدل في الوقت ذاته على حميمية العلاقات الاجتماعية.
نشر شائعة الانشقاق
تتعرّف ليلى إلى شخصية محسن بأنه ليس الضابط في الوقت الذي تبحث فيه عن جثة أخيها أحد المنضمين لداعش، لتقترح نشر شائعة انشقاق الضابط عباس عبد الكريم (أبو غازي)، ليأتي المشهد الحاسم الذي يظهر برمزية الحرب الإعلامية التي تعرضت لها سورية بنقل المحطات الفضائية خبر الانشقاق في الوقت الذي يشاهد فيه (أبو غازي) مع أهل الضيعة الخبر، فيرد بعنف من خلال مؤتمر صحفي ويكذب الخبر.في المشاهد الأخيرة يمرر المخرج رسالته بأن الشعب السوري واحد باختلاف انتماءاته حينما يستعرض الجندي الهويات على الحاجز، فنبال من درعا، ونسرين من حلب.ليحدث المشهد المحزن بانفجار حافلة اللاعبات القادمة من حلب للمباراة النهائية على كأس الجمهورية، في الوقت الذي يصاب فيه والد نبال عيسى عطية، في الوقت الذي يهرب فيه محسن بمساعدة رامز من معسكر داعش لنصل إلى المشهد الأخير الذي يحمل رسالة الفيلم النهائية.
نهوض الجثث
تقرر نبال الصمود في وجه القتل فتصر على زواج الجميع بعرس جماعي ويرضخ (أبو معن)فيوافق على زواج أحمد من ابنته، ويتزوج (أبو غازي)من نبال، وكل واحد منهما من طائفة،لتمرير رسالة تظهر الفكر الحضاري الاجتماعي الذي تعيشه سورية، يمر مشهد العرس الجماعي ليكلل جميع قصص الحب، لينتهي بمشهد وصول الجميع إلى الحاجز الذي تعرض للاعتداء، وقُتل فيه جنود الحاجز ومحسن..لينتهي الفيلم بمشهد افتراضي تنادي فيه نبال جثث القتلى للنهوض والمواجهة وتحدي الموت للانتصار، فينهض الجميع لمتابعة مسيرة الانتصار.
المشهد الافتراضي حمل دلالات تتوافق مع مشاعر الشعب السوري وثقته بقيادته وبالجيش العربي السوري، ولخص رسالة الفيلم بالتصميم على النصر. وكما قال الأستاذ محمد الأحمد:”إن الأفلام السورية تحظى بالجوائز بالحبّ الذي تفوح منه رائحة تراثنا وتاريخنا ووطننا وعراقتنا ونبل انتمائنا إلى سورية العظيمة” بالحبّ سننتصر.
ملده شويكاني