ثقافة

كآبة الفيلسوف – محنة المعرفة … في “عندما بكى نيتشه”

عندما يتعدى نبوغ العبقرية المدارك البشرية وتلاوين الوعي ذات الاستقرار الكسول، يصبح هذا النبوغ وبالاً على صاحبه ومشكلة حياتية متواترة لضياع لغة التواصل والتناغم مع الآخرين.
في رواية “عندما بكى نيتشه”، الحائزة على ميدالية كاليفورنيا الذهبية، لـ”إرفين د. يالوم”، والتي نشرت في عام 1992 وترجمها إلى العربية خالد الجبيلي “منشورات الجمل لعام 2015” تتراءى لنا ازدواجية الأزمة المفترضة التي يحياها الفيلسوف ذائع الصيت الذي سبق عصره المفترض في 1882. إذ يستقدمه الكاتب من زمنه لنراه بمرآة عصرنا عندما يتفاعل مع شخوص معاصريه، “الطبيب برويار” المأزوم بعشق مريضته التي يعالجها من اكتئاب هستيري، ومن خلال هيامه يدرج لنا فلسفة التفريغ التي يتبعها في العلاج، والتنويم المغناطيسي، فيحفز المريض للكلام في موضوع أزمته، كطريقة لتفريغ الثقل والعبء النفسي، ليصل بنا إلى “سيجموند فرويد” وأسلوبه في التحليل النفسي وتفسير الأحلام كمدخل إلى شخصية نيتشه الفيلسوف المتطرف الذي ابتدأ بالفيلولوجيا محطة قبل انطلاقه في أدغال الفلسفة والمماحكة الفكرية. فكانت علاقته الطويلة بالمرض محركاً للكثير من مقولاته، حيث يشكل الألم العظيم كاشطاً للسخام العالق بروحه، مزوداً إياه برؤية صافية للأمور، ما كانت لتتأتى له في الحالات العادية.
استدراج  الطبيب للفيلسوف للوصول إلى مكنونات ذاته وعمق عذاباته يجري من خلال لعبة تبادل الأدوار، فمرة يعالج الطبيب آلام نيتشه الجسدية، ومرة يعالجه الفيلسوف برويور من أزماته الكابوسية عبر التداعي الحر للكلام، لتشابه حالات التعلق بالمرأة لكل منهما، فيتبادلان في ما بينهما دوريّ الطبيب والمريض، وتتداخل الأزمات النفسية مع الآلام الجسدية، لتضيء جانب فلسفة نيتشه بالمرأة التي قوبلت باستهجان إلى حد ما. لكنه وانسجاماً مع نظريته في فلسفة القوة وفلسفة النخبة كان يربأ بالإنسان الأبرز “السوبرمان” أن يكون قرينه الأنثوي أدنى مرتبة في العقل والشعور والاهتمام. من هنا أتى هجومه على المرأة التي تركن إلى الهدوء والسلامة باحثة عن الطمأنينة في حياة راكدة بلا قلق، للوصول إلى  الحقيقة. هذا إضافة إلى إحباطه لعدم اكتمال علاقته بسالومي، الشاعرة المتعلقة بالفلسفة، نموذجه الأمثل الذي مثّل صداقتها معه ومع صديقه بول بقانون فيثاغورث،كحقيقة علمية خالدة.  وجاء فشله في العلاقة العاطفية معها ليزيد من تشاؤمه وتحامله على المرأة مما أفقده موضوعيته في هذا الأمر. وقد كان تأثره بالفلسفة الأبيقورية مدخلاً لهجومه على فكر العفة والرهبنة المسيحية، واعتبارها جريمة بحق الإنسانية لإعاقتها الانسجام مع إيقاع الطبيعة العفوي والانسجام الفطري للغريزة الإنسانية والتوازن بين العقل والجسد. ومن هنا كانت سخريته من الأخلاقيات السائدة في عصره، وابتعاده عن الانقياد القطيعي للثوابت الفكرية المكرسة.
ما الجديد الذي أرادت الرواية أن تأتي به؟ حيث أن جل ما ورد فيها من أفكار طرحت بشكلها المباشر كما وردت في كتابه “هو ذا الإنسان” و”العلم المرح”، كما يجري التطرق إلى تأثره بفلسفة بوذا، فيتجلى نظامه الصحي بالسيطرة على الضغينة، إذ أن هذه الأخيرة تستنفذ طاقة المرء بلا طائل. لكن فلسفته الأهم هي ماتتعلق بإرادة القوة.. والإنسان السوبرمان، والنخبة، فهو يزدري مفهوم الشفقة، معارضاً الفهم المسيحي بأن تتداعى كل الأجزاء لتصبح بسوية الجزء الأضعف “الشفقة نموذجاً” بينما منطقه يقول بالقوة والجانب الأضعف يبتر فلا مبرر للنزول لسويته، حيث الوفرة من القوة هي التي تتيح شجاعة البحث عن الحقيقة.
البنية الروائية والأسلوب السردي لم يتميزا بجديد لتبيان العوالم الداخلية الملحوظة منها والمفترضة كعمل فني مستقل جزئياً عن العمل الفلسفي. والشخصيات المحورية جذابة بتاريخها وشهرتها، وكذلك على صعيد العوالم الداخلية للشخصيات المتكئة على نماذج حقيقية موجودة تاريخياً “نيتشه، برويير، فرويد، سالومي” وقد تضيق رواية واحدة بالإحاطة بهم.
العمل الروائي الذي يعلن، ومنذ عنوانه، اتكاءه على نيتشه، سيرة وحياة وفلسفة  درج على استعارتها كثيرون في نسج أعمالهم الأدبية، مستحضرين سير أعلام، كقوالب لرواياتهم، أخص بالذكر أمين معلوف في أكثر من عمل له “سمرقند –حدائق النور” في عرضه لفكر ماني وعمر الخيام. ويتبادر إلى الذهن سؤال عن مدى أمانة الكاتب في استعراض فكر الفيلسوف الذي اختاره مادة لروايته، إذ من الصعوبة بمكان احتواء مجمل أفكاره التي تضمنتها عشرات الكتب. فثمة الشخصيات الرئيسة المستعارة من التاريخ، والشخصيات الثانوية التكميلية “الممرضة السابقة، الممرضة اللاحقة، بيرثا، راشيل، ماكس، ماتيلدا”.
من اللافت للنظر إعادة إثارة موضوع الاضطهاد الممارس على اليهود في غابر الزمن، إذ تلحظ عبارات “الطب اليهودي، موجة المهاجربن اليهود، اختاروا شخصاً غير يهودي بدلاً عني، كل يوم تزداد الكراهية ضد اليهود”.في زمن كان اليهود ينعمون بالثروة والسلطة والجاه. دون أن يغيب عن الذهن الفارق الكبير بين اليهودية كدين والصهيونية والدولة اليهودية المقامة في فلسطين. مما يخشاه المرء أن يكون لهذا التأكيد مظلومية عفا عليها الزمن لإعادة إنتاج أحقية ما، في اللاوعي الجمعي، لوجود تجمعات بشرية يهودية في أرض الآخرين من خلال التأكيد على الغبن والظلم والاضطهاد الذي لحق باليهود في غابر الأزمان، حيث طرأت هذه التعابير والمفردات ناشزة في الرواية، ولامبرر لها، وأتت دخيلة على الموضوع والنص والفلسفة في آن واحد، ومغايرة لفكر نيتشه وبعيدة كل البعد عنه وهو الذي طالما سخر من الفكر الألماني النازي والفلسفة الألمانية عموماً، وإن كانت هذه الأخيرة استفادت منه وسخرت فلسفته لأهدافها العنصرية. كما اعترض على الفكر المسيحي من خلال مقولته الأشهر “موت الله” التي تؤكد بما لايرقى إليه الشك ابتعاده عن أي أفكار دينية أو قومية، بل على العكس كان مع الإنسان النخبوي القوي والمتميز وضد أي حالة قطيعية ودعوته إلى الديونيزية تؤكد ذلك.
في  الوقت الذي نعتمد فيه على الفلاسفة والمحللين النفسيين لقراءة الشخوص في الروايات والواقع والنفاذ إلى بواطنها.كبوصلة بحث. تنقلب الآية لتصبح حياتهم وطريقة تفكيرهم وأزماتهم الشخصية موضوعاً ومادة للتحليل واستنباط العبر، لكن إعادة إحياء الفلسفة على شكل حياة تنطق بها رواية هي أسلوب متميز لنفض الغبار عن الإرث الفكري لعمالقة عاشوا في الماضي وتمثل أفكارهم بوصل الانقطاع الفكري لحصيلة الجهد الإنساني السابق واستمرارية اعتماد العقل كمنهج وطريقة للتفكير في عالم يزداد انغلاقاً.
دعد ديب