ثقافة

بيار كورني رائد المأساة الفرنسية

وُلد بيار كورني عام 1606في مدينة روان بشمال فرنسا من أسرة نورماندية عريقة كان معظم أفرادها يتولى القضاء. دخل كورني مدرسة الآباء اليسوعيين في مسقط رأسه وأظهر تفوقاً ملحوظاً في اللاتينية، حيث ظهرت موهبته مبكراً إذ نظم الشعر باللاتيني وهو دون الرابعة عشرة ونال على ذلك بعض الجوائز، درس الحقوق وتخرج محامياً, وكان لدراسة الحقوق أثر على شعره لازمه طوال حياته إذ تجلى ذلك في صدق حجته وبراعة تخلصه ومنهجه الخطابي الفذ, ثم في هذه المناقشات والمرافعات التي تزخر بها مآسيه.
كورني هو أبو المأساة الفرنسية بلا منازع، وكبير شعراء هذا الدور, وكان أكثر نظمه في الشعر كان للشعر المسرحي من التراجيديا أو المآسي، وأهم ما وضع من هذه المآسي: مأساة (السيد) التي مُثّلت في أوائل عام 1637في مسرح مون دوري في باريس حيث لاقت المسرحية نجاحاً منقطع النظير, ولاقت استحسان الناس لدرجة كان يطلقون على الأشياء الجميلة بقولهم “هذا جميل كالسيد”.
أتبع كورني مأساة” السيد” بمأساة “هوراس”1640 وسِنّا 1641 و”بوليوكيت” 1642 و”موت بومبيوس” 1643 وغيرها. لكن كورني فشل في مأساة برتاريت, فكفّ عن الكتابة للمسرح واعتكف عن الحياة الفنية، وظل مايقارب الثماني سنوات يترجم الشعر الديني والكنسي, ثم أقنعه بعض أصدقائه أن يخرج من عزلته وينتقل إلى باريس ليكون على مقربة من الأوساط الفنية.
في باريس, اضطربت حياة كورني من الناحية المالية لقلة موارده نسبياً وكثرة همومه، لكن أعظم جانب من مأساة حياته كان مرده أفول نجمه في عالم المسرح بعد أن كان فيه كالشهاب الساطع، وبعد أن حاول عبثاً أن يستعيد مكانته المجيدة كان الذوق قد تغير, وحلّت المدرسة الاتباعية محل طريقته في الإبداع, وهي طريقة تقف وسطاً بين فن عصر النهضة القائم على الخيال والتحرر والعاطفة الصاخبة والتجديد في كل شيء, وبين المدرسة الاتباعية القائمة على العقل والعاطفة المصقولة من حيث (الزمان-المكان). وعلى الرغم من أن كورني يعد أبا المأساة الاتباعية, فقد كان بطبعه يجنح نحو الخروج على هذه الأوضاع والأصول التي تقيّد الكاتب بأغلالها فهو بطبعه ابتداعي.
لقد ركّز كورني كل اهتمامه على تحليل ما يدور في نفوس أبطاله من العواطف والنوازع المتعارضة والدوافع المختلفة وخصوصاً ما تمليه العاطفة وما يمليه الواجب, وكان دائماً يجعل النصر في مثل هذا الصراع للواجب على العاطفة، ففي مسرحية “السيد” صراع بين ما يقتضيه الشرف وما يمليه الواجب, ينتصر فيه الشرف آخر الأمر. فمكان الرجل في مسرحية “السيد” هو مكان الشرف أو مكان الواجب الذي يعلو على أهواء النفس ومغامرات الطموح, فالشرف الذاتي لم يكن شيئاً غير الشرف القومي. فالبطل عند كورني في مأساة “السيد” نراه ممثلاً في شخصية “رودريك”، فعلى الرغم أنه شاب لا تجارب له في الحرب ينتصر على “الكونت” الذي طالما تمرّس في الحرب, لا لشيء إلا لأن البطل الشجاع الكريم هو الذي يجب أن يخرج في المعركة مرفوع الرأس, موفور الكرامة, ثم هو يجب أن ينتصر على خصمه دون أن يمسّه بسوء لأن هذا على صعوبته أكثر تنويهاً بمروءته, وأجدر بأن يعطُف عليه في قلوب الجماهير وينال إعجابهم ويرد إليه حب “شيمن” ويستولي على قلب حبيبته ويعقد عليها ليحقق رغبة الجمهور، ولتفوز الفضيلة دائماً بالسعادة يجنح كورني في مسرحياته إلى تصوير إنسان هو في نظره المثال الأعلى لإنسانية إنسان يجمع بين حرية كاملة وحكمة فائقة, وأخيراً فالإنسان الأعلى في نظر كورني هو البطل: شجاع وحكيم, مقدام وعالم وحر ومفكر، فمسرح كورني يُعبّر عن القوة كما يُعبّر عن الفضيلة. إننا نجد في مآسي  كورني أعنف أنواع الصراع التمثيلي: صراع الحب مع الشرف, الوطنية مع العواطف العائلية, العفو والغفران مع الحقد والانتقام, الحب الإلهي مع الحب الإنساني. فالصراع الدرامي عند كورني نهايته النصر المحقق للواجب على أهواء النفس وشهواتها. إن الدرس الأخلاقي الذي رمى إليه كورني في رواية “السيد” كان يهدف إلى تمجيد البطولة والخصال الحميدة وازدراء الخوف والضعف.
إبراهيم أحمد