ثقافة

في العاميّة!

غسان كامل ونّوس
لست هنا في مجال التمييز بين اللغة العربيّة الفصيحة، والعاميّة؛ وأُعلنُها صراحة، أنّني أرتاح إلى الفصيحة، وأستمتع بها قراءة وكتابة، وأستطيع أن أتواصل بها مع مئات الملايين الذين يتكلّمونها، ويفهمونها، وأحسّ في نفسي بعض قصور وعسر، حين أتحدّث بالدارجة عن فكرة مهمّة.
لكنّ كلامي هنا، يتناول ملاحظة في من يكتبون المحكيّة (الدارجة)، ويعتمدونها في المسلسلات والبرامج والأغنيات والأحاديث والنصوص (الشعريّة).
وليست “حفلات” الزجل، ومنادماته ومناوشاته، جديدة؛ وقد تنوّعت منذ زمن، شكلاً ومضموناً، ولها مناسباتها، ومبارزاتها، وفرسانها، ومتابعوها، ومناصرو هذا الفريق أو هذا المجلّي، وسواهما، في القول والغناء وصولاً إلى البرامج والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونيّة. وقد كثرت هذه المشاهد، وتعدّدت، وتنوّعت، وبالغت، واستسهلت، وأساءت أحياناً!. فمِن المشتغلين في هذا الميدان، من يعتقد أنّه بمجرّد استخدامه هذه اللهجة أو تلك، تقرّب من الناس أكثر، ودخل إلى نفوس شريحة أكبر، أو على الأقل نسبة مهمّة من المواطنين. وبصرف النظر عن تقبّل هذه الشريحة، أو تلك، ورضاها أو اعتزازها بذلك، أو اعتراضها على بعض ما يرد من أقوال وأفعال، ليست إيجابيّة، قد تُفسَّر أنّها من باب التهمة أو التعريض أو نشر الغسيل! فإنّ ما يعتري هذا الأسلوب في التناول غير العفويّ، من مبالغة في استخدام المفردات المغرقة في المحلّيّة، والإصرار على عبارات بعينها، تُصبح -قد تُصبح، بقصد أو من دونه- عنوانات أو لازماتٍ تقال بمناسبة أو غير مناسبة، وتتردّد على ألسنة الناس، دون سواها- يسيء إلى الحال الشعبيّة أو المعنويّة العامّة، ويقلّل من الاحترام والهيبة، ويسخّف المواقف، ويميّع الحالات إلى درجةٍ، يصبح معها النهوض من أفكار ومواقع وتهيّؤات وأوهامٍ، صعباً على المتلقّي المتنوّع. إنّ في الأمر مغالطة كبرى، يخطئها القيّمون على أعمال كهذه، أو يتغافلون عنها، أو يتقصّدونها؛ فالبساطة والفطريّة والعفويّة قيمة كبرى، والوصول إليها ليس سهلاً، ويحتاج إلى خبرة وإمكانيّات، تستطيع تمثّل الروح الجمعيّة، في حال الإحساس الوجودي الحقيقي النابع من علاقة الناس برغباتهم، ونزواتهم، وآمالهم، وطموحاتهم، بوقائع العيش وعناصر الحياة، وشروطها، وظروفها، في هذا المكان أو ذاك؛ وهي حال تتواشج، أو تتقارب مع أحوال أخرى لأناس آخرين في مواقع أخرى؛ لأنّ معنى الصراع متشابه، إذا لم يكن واحداً، والمعاناة والخيبات والأفراح، التي تنتج عن المواجهات والصدمات والمناسبات، تعطي ردود أفعال متشابهة. ومن هنا، كان الوصول مهمّاً وعصيّاً، إلى يقينيّات هذه الجماعة أو تلك، أو معاني تكيّفاتها مع ما يحصل لها في تفاصيل حيوات أبنائها، وتشكّلات الوعي الناتجة عن ذلك؛ هذه التي تتكامل، وتنتقل باللاوعي الجمعي من جيل إلى جيل.
إنّ الوصول إلى ذلك، يمنح العمل الشعبي (العامي) روحاً وحيويّة وأصداء، يُفترض أن تصل إلى المتلقّي، أو غالبيّتها؛ فيحدث الانفعال الإنساني والتأثّر الإيجابي، وإن كانت الأفعال سلبيّة. وهنا تضمحلّ، أو تنتفي حال الإساءة إلى الناس، إذا ما تمّ الحديث عن ممارسات خاطئة، أو عادات وأعراف ليست مشرقة.
إن الخطأ الجسيم يحصل، حين تتم الاستعاضة عن تمثّل الحالات والمشاعر،   بالإغراق في الألفاظ المستهلكة، وتكرار العبارات المستهجنة، والاعوجاج أو الانحراف في الألفاظ؛ بذريعة (أو توهّم) أنّ ذلك، يمنح العمل هويّة ومصداقيّة؛ فيما الناتج غير ذلك، إن لم يكن معاكساً له.
ولا شكّ في أنّ الحدود الفاصلة بين هذا وذاك، تتعلّق بالرهافة والإحساس، لا بالدراسة والتخصّص والقصد فحسب؛ وهي ليست واضحة تماماً؛ ممّا قد يجعل تجاوزها ممكناً، ويحتاج اختراقها أو احترامها إلى موهوبين في الكتابة أوّلاً وأخيراً، وما بينهما التمثيل والتصوير والإخراج، إذا ما كان العمل يندرج في الإطار الفنّي.
هذا إذا ما افترضنا حسنَ النيّة أو الغاية في تقديم عمل ذي فائدة؛ من خلال استذكار جماعة منسيّة، ربّما، عبر التحدّث بلهجتها، أو التعريف بطقوسها المميّزة في العيش، وقد يكون في ذلك سبق أو جِدّة؛ ووراءه أفكار تسويقيّة، وهذا حقّ؛ وهو أمر مهمّ أيضاً؛ لكنّ الخطأ في التقدير وارد أيضاً، أو فاضح أحياناً؛ ما يؤدّي إلى أن يصبح العمل منبوذاً أو مستسخَفاً أو هابطاً في رؤاه وأسلوبه ومعناه؛ وإن كان له بعض الرواج في البداية، ولا سيّما إذا ما كانت بعض اللهجات جديدة على العمل العام، أو على أسماع المتلقّين؛ فإنّه لا يطول، وسرعان ما ينكشف الأمر، وتتقشّر التزيينات الخارجيّة، ويظهر الداخل الهشّ أو المتن الضعيف، وهنا تكون الخسارة مضاعفة؛ إساءة أو تشويهاً للشخصيّة الحاضرة والذاكرة، وانتكاسة في الريعيّة وسمعة العاملين في المشروع، الذي قام أساساً على هذه المسألة؛فأن تصل إلى الروح، وتستطيع أن تتمثّلها، وتوصل نفثاتها وزفراتها وشهقاتها إلى الناس مهمّة إنسانيّة، ووطنيّة، لا يجوز التعامل معها، بأقلّ ممّا تستحقّ، من جدّيّة وفهم ووعي ومسؤوليّة.