ثقافة

هل غادر الشعراء من متردم؟!

سيكون من الصعوبة بمكان، إن لم يكن ضرباً من ضروب العبث الذي لا طائل منه، أن يتفق اثنان يحترفان الشعر على إطلاق تسمية واضحة ونهائية ومطلقة على ما يسمى كمصطلح تمييزي «بالشعر الحديث»، أو «قصيدة النثر»، ذلك أن هذه التسمية كي تُعلن تحتاج أن تتربع على عرش من القواعد والأحكام الصارمة، متوجة بالشكل الذي يعطي التسمية مفهوم الدلالة اللفظية، كالشعر العمودي، رغم قناعتي الشخصية بعدم جدوى هذه التسميات في ظل هيمنة الشكل واللغة والمضمون على إصدار حكم القيمة على هذه وتلك، ولنا في امرىء القيس، والمتنبي، وأبي نواس وغيرهم دلائل تعلي قيمة المعطيات الثلاثة آنفة الذكر على ما سواها في تصنيف القصيدة، ولكن إن كانت الحداثة الفنية عموماً تعني تساؤلاً جذرياً يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها من أجل افتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكار طرق للتعبير تكون على مستوى هذا التساؤل الإشكالي والشكلاني في آن، شرط أن تصدر عن نظرة شخصية للإنسان والكون، فهنا يمكن لمن ينظم الشعر الحديث، أو قصيدة النثر، بعد أن يتعمد بماء هذا المفهوم الحداثوي، أن يتبع حدسه في التماهي مع منتجه، وإعطائه التسمية التي يرتضيها أو لا، ولن أستغرب إقدام أحدهم، وفق هذا الطرح، على تسمية شعره «بالشعر الذئبي»، أو «قصيدة الصدع»، مثلاً، إلا أن شاعراً مثل رسول حمزاتوف قد حسم هذا التذبذب المغلق، «أسوة بالنظرية المغلقة في علم الفيزياء»، عندما أصر ألا يعطي هوية لما يكتب، راضياً بالاسم الذي سيختاره القارئ، حيث يقول حمزاتوف: «لستُ أكتب لكي أوافق واحداً من القوانين أو غيرها، ولكنني أكتب لألبي نداء قلبي، والقلب لا يعرف قانوناً، أو بالأصح للقلب قوانينه التي لا تناسب جميع الناس».
أسئلة وهواجس
يحتلّ الشعر حيزاً كبيراً من حياتي، وهذا ما يجعلني، بطبيعة الحال، من المتابعين المكترثين لهذا الجنس الأدبي المدهش والهش، إلا أن قلقاً عميقاً ينتابني، وأنا أطالع المجموعات الشعرية الصادرة في الآونة الأخيرة في سورية بشكل خاص، والعالم العربي بشكل عام، ولاسيما أننا نمتلك إرثاً عريقاً من الشعر، يجعل من وصية “والبة بن الحباب” لأبي نواس، عندما أراد الأخير تعلّم نظم الشعر على يديه، الوصفة المثالية لكلّ من يريد أن يخوض في هذا الشأن، وكم كانت النتيجة باهرة بالإرث السحري الذي تركه الحسن بن هانئ من آلاف القصائد النواسية التي تعدّ من أهم ما كتب في الشعر العربي ماضياً وحاضراً.
القلق الذي يساورني سببه أنني قرأت ما يزيد عن عشرين ديواناً شعرياً حديث النشر، ولم أظفر بأكثر من قصيدة أو (قصيدتين) جعلتني أحتفظ بالديوان الذي يضمّها، ولا أضعه فوق أقرب حافة تصادفني، كمن يرفع نتف الخبز عن الأرض كي لا تطأها الأقدام، لأنها نعمة إلهية لا يجوز أن تبقى مرمية هنا وهناك.
ترى هل هبط مستوى الشعر والشعراء إلى هذا الدرك، أم أن طموحي إلى قراءة شعر يفوق، بأهميته ومخاطبته الوجدانية للقارئ، النتاج الشعري لكبار الشعراء السوريين، باختلاف عصورهم، هو السبب الذي جعل ذائقتي لا تستسيغ ما قرأت؟! ولكن، من خلال العديد من النقاشات مع أصدقاء مبتلين مثلي بداء الشعر، وصلنا إلى النتيجة ذاتها، ما دفعنا إلى الوقوف على حقيقة الأمر، وتبيان أسبابه، وهذا التبيان أراه أمراً واجباً أكثر منه ترفاً لتزجية الوقت البطيء والقاتم، لأنَّ الشعر السوري والشعراء السوريين هم فعلاً من أهمّ شعراء العالم قاطبة، وليس المنطقة العربية فقط.

شعراء بلا شعر وأسباب أخرى
بداية، أرى أننا لا نعاني قلة الشعراء، إذ إن جولة سريعة على المكتبات بأنواعها، بما فيها مكتبات الأرصفة، تكون كفيلة بأن تجعلنا نطالع أسماء شعراء- واسمحوا لي أن أضع تحت تلك المفردة «شعراء» عدة إشارات استفهام وتعجب وإحباط- تتجدّد كلّ يوم، وتتكاثر كخلايا سرطانية، ولا أدري إن كان هذا الأمر دليل عافية، أم هو علائم تشير إلى أزمة أخلاقية في المقام الأول، وإبداعية ثانياً، تنذر بما أورده عنترة العبسي في افتتاحية معلّقته الشهيرة: هل غادر الشعراء من متردم؟!.
الموضوع إذاً ليس سببه فقر دم في الشعراء، بقدر ما هو فقر مدقع بالشعر نفسه، بمعناه الوجداني، وإحساسنا به، وطريقة تعاطينا معه، ولاسيما بعد أن عزف الكثير من كبار شعرائنا عن الشعر أو اعتزلوه، إما بحجة ذهابهم بنزهة مع الموت، أو من استنزف مخزونه فلجأ إلى طرق مضحكة في توليف شعره مع قصائد لشعراء آخرين!.
سبب آخر لا يقل أهمية عن انكفاء العديد من الشعراء السوريين ومدارسهم الشعرية، بالانسحاب من المشهد الشعري والثقافي العام، وهو غياب المنبر بمختلف أنواعه، إن كان المنبر الرسمي الذي توفره الصفحات الثقافية في الجرائد المحلية، أو في الغياب الحاد للفعاليات والتظاهرات الشعرية، أو تحول المراكز الثقافية التي كانت تحتضن بعض الأماسي الشعرية إلى مكان لأخذ قيلولة لابأس بها على وقع: «أحشش كأرنب، أدخن كقطار، وقف سائق السرفيس ونظر إلي وكأني قطعة نقد من فئة خمس ليرات»، وغيرها من القصائد التي كُتبت كما تسلق البطاطا، من دون أية روية وخبرة ودراية.
أيضاً عزوف الناس عن قراءة الشعر بعد أن تخربت الذائقة الجمالية بفعل عوامل كثيرة لها تشعبات عدة، سنأتي على ذكرها في مقام آخر، ولكني سأعود إلى الصفحات الثقافية في بعض جرائدنا المحلية التي كانت تفرد للشعر حيزاً لابأس به، أقصد التجارب الشعرية الجديدة التي نهض العديد من الشعراء وعرفهم القراء من خلالها، رغم أنها في مرحلة ما كانت تُعنى بنشر القصائد المهمة لشعراء سوريين وعرب، مثلما كان ملحق جريدة الثورة الثقافي من أهمّ المنابر الشعرية، وأيضاً الملف الشهري الذي كانت تصدره الزميلة تشرين، وذلك لإقبال الكثير من أهمّ الشعراء على نشر قصائدهم فيها، رغم قلة المردود المادي، إيماناً منهم بأن الشعر رسالة إنسانية خالصة، ونافذة حقيقية للعقل على العالم، وقيم الجمال والخير والحب، ولكن أسأل الآن: لماذا لم يعد كذلك؟ وهل المشكلة في النصوص أم في المنبر؟ طبعاً لا نغفل عن ذكر اختفاء المجلات الثقافية المكرّسة للشعر بشكل رئيس، بسبب العامل الاقتصادي في المقام الأول، وإضراب دور النشر عن نشر الشعر على نفقتها لكونه بضاعة غير رائجة، إلا أنها مستعدة لنشر أسوأ أنواعه إن تم الدفع سلفاً، من دون أدنى معيار مهني، أو شعور بخطورة الموضوع، عدا عن كون الهيئة العامة السورية للكتاب كان لها دور كبير في نشر دواوين شعرية لا تمتّ للشعر بشيء، وها هي منشوراتها ملقاة على قارعة الأرصفة، تصيد الغبار، أو تقبع في أقبية وزارة الثقافة، تتعفن من الرطوبة، وعادة ما كان يحكم هذا الفعل سابقاً المحسوبيات و”تبويس الذقون”، و«نفعني هون بنفعك هونيك»، وهكذا، رغم أنها نشرت -مشكورة- لأسماء أثبتت جدارتها ومقدرتها الشعرية، وهذا يدلّ على عدم وجود أية استراتيجية بشأن هذا الموضوع المهم، ولكني أيضاً لا أعلّق أهمية كبيرة على غياب المنبر رغم أهميته، مؤثراً أن ألقي اللوم بكامله على كواهل من يستسهلون نظم الشعر ويتعاملون معه كما لو أنه وصفة طبية جاهزة، ويكفي أن نقرأ بعض النماذج من تلك الوصفات -عفواً الدواوين- لندرك حجم المصيبة التي يصنعها هؤلاء باختلاف توجهاتهم، فمنهم الذين يلجؤون إلى النت، ويقومون بعملية قص ولصق لمجموعة من القصائد لشعراء من كل أنحاء العالم، من رامبو إلى ايلوار، ومن أيف بونفوا إلى سان جون بيرس، ومن محمود درويش إلى أنسي الحاج، وبسام حجار، وكثر غيرهم، لتأتي قصيدتهم كالمسخ المشوه، أو كاللحم بعجين في أحسن حالاتها، وفي حال اعتمد بعضهم على عضلاته الشعرية، فسنلاحظ أن تجربته تخلو من مرتكزات التجربة الشعرية، وهي عادة محدودة الأبعاد، وتخلو من النضج المعرفي، والموهبة المشحوذة بالتدريب المتواصل على تقنيات الكتابة، ومعرفة أهمية علاقة المفردات بعضها ببعض، وإدراك قيمة الإيحاءات المنبعثة من الصورة الشعرية والتراكيب اللفظية، مع خلو قصائدهم من الفرح والمعاناة خلواً تاماً، مع ميلي الشخصي إلى المعاناة، كونها أقدر على استنهاض الدواخل الشعرية، وتحريض المناطق اللاشعورية الفردية، والإحساس العميق بالمتناقضات التي تنجم عنها جماليات القصيدة باختلاف مدارسها.
وهناك من سنجده مهتماً بالمغامرات اللفظية المبالغ بها التي تصنعها التراكيب اللغوية المعتمدة على المأثور والمحفوظ سلفاً، لا التركيبة النفسية الناشئة عن حالة شعورية فريدة وفردية، وغالباً ما تتمحور قصيدته حول صور ممزقة لا اندماج فعالاً بينها وبين الجو العام لقصيدته.
إن نشوتي بالإرث الشعري العربي تعادل قنوطي مما أقرؤه من قصائد تعيش اغتراباً حقيقياً عن ذاتها وعن ذات من خطها، بعد أن وقع في فخّ الاستسهال وصار شاعراً بين يوم وليلة، تحتفل به المنابر، وتُقام على شرف قصيدته الميتة ولائم العلاقات العامة و”الحربقة” والشطارة، في معرفة من أين تؤكل الكتف.
كان الفرزدق يسجد لسماعه قصيدة تنزع قلبه من صدره، وهو يقول للناس: لكم سجدة القرآن ولي سجدة الشعر.. غداً في جنة المعري، بعد أن يلتقي بشعراء الوقت الضائع، ترى هل سيسجد الفرزدق لهم، أم سيسجد عليهم؟!.
تمام علي بركات