ثقافة

“كاريكاتور” الموسيقي في الأوبرا.. منولوجات تسخر من انعكاسات الأزمة واختلاف المفاهيم

أعاد مهرجان “كاريكاتور” لإحياء المنولوج والأغاني الاجتماعية الناقدة، الذي أقيم في دار الأوبرا، جزءاً من الذاكرة الوجدانية الشعبية التي ارتبطت بمنولوجات ساخرة طالت أوجهاً من السلوكيات والمشاهدات الحياتية بمفردات بسيطة وحكايات شعبية وصيغ لحنية متوافقة، تشكّل ما يشبه ناقوس خطر لأمر ما، ارتبط هذا النقد بتاريخنا الفني السوري وبصور من الذاكرة عاشت في مخيلتنا، قدمها رفيق سبيعي وسلامة الأغواني وأنور البابا وعبد الوهاب الجراح. وقد عبّر الفنان رفيق سبيعي، عن سعادته بإعادة هذا الفنّ الذي اشتغل عليه سنوات، بشخصية الموسيقي والناقد رياض مرعشلي، ومرافقة الفرقة الموسيقية بإشراف عدنان فتح الله .وسيكون هذا المهرجان نواة لإعادة هذا النوع من الغناء الشعبي الناقد إلى الساحة الفنية بانطلاقة أوسع في العام القادم.

الأمر اللافت أن الموسيقي الناقد رياض مرعشلي قدم بأسلوب معاصر صورة متجددة عن هذا النوع الغنائي الشعبي، من خلال مجموعة منولوجات كتبها ولحنها، وقد استمد فكرتها من واقعنا الحالي في ظل الحرب الإرهابية التي خلّفت الكثير من المواجع وأثرت بصورة مباشرة على الشريحة المتوسطة، الشريحة الكبرى في مجتمعنا، ولم يبتعد مرعشلي في تلحينه عن المسار اللحني للمنولوجات القديمة فجاءت بجمل لحنية متشابهة لاسيما في مقاطع السؤال والجواب “لاتسل كيف ولماذا”، وفي تكرار مفردات معينة فيها مدود لحنية مثل “أوف وإيه”. استهل مرعشلي المنولوجات بارتجالات لحنية خافتة كصوت ثان كمقدمة، أو بالاعتماد على إحدى آلات التخت الشرقي. وفي منحى آخر نجح مرعشلي بتقمص شخصية الفنان رفيق سبيعي ومقاربته، ليجسد فيما بعد بشخصيته المعاصرة المنولوجات الساخرة والناقدة انعكاسات الحرب على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
مفاجأة الأمسية كانت في مشاركة المايسترو عدنان فتح الله  بالعزف على العود وشكّلت نغمات أوتاره- كفواصل وكصولو- منعطفات لحنية هامة. تفاعل الجمهور منذ البداية مع أداء مرعشلي لاسيما في المنولوج الأشهر لفنان الشعب “شرم برم” ولاقى المنولوج المعاصر “الدولار” صدى لدى الجمهور لأنه يمس حياتنا اليومية بشكل مباشر.
تشكّلت الفرقة الموسيقية بإشراف فتح الله من الوتريات –الكمان –التشيللو-الفيولا-الكونترباص- العود- القانون – الناي- الإيقاع مع مرافقة الكورال.
“ياولد لفلك شال”
قدم مرعشلي نوعين من المنولوجات الأول شعبي بسيط يتصف بمفردات متداولة من السهل تكرارها، والثاني يتخذ الطابع الاجتماعي بمستوى ثقافي أعلى. وانتقد بصورة مباشرة الوضع الاقتصادي الذي تمثل بغلاء الأسعار بالدرجة الأولى، والذي يعبّر عن جشع التجار واستغلالهم الأزمة ضد المواطن، وما لحق من تبعات الهجرة واللجوء والنزوح إلى الصراعات الدائرة في ظل الإرهاب المحيط بنا، إضافة إلى نقد بعض السلوكيات الاجتماعية مثل نقد قانون السير.فبدأت الأمسية بوصلة من المنولوجات الناقدة التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ الفنّ السوري، قدمها الفنان سبيعي بشخصية (أبو صياح) نقدت الكثير من المظاهر والسلوكيات الاجتماعية، وقد نجح مرعشلي في إيجاد مقاربة بينه وبين أداء سبيعي من حيث الشكل ونبرات الصوت والحركات وتغيّر ملامح الوجه وإيماءات الجسد، وتكرار مفردات طالما رددها الناس مثل “شرم برم” و”ياولد لفلك شال” تميزت هذه الوصلة بمشاركة العود والإيقاعيات والوتريات.

الثقافة بالفكر
ثم قُدم المنولوج الساخر الذي يتعلق بشروط الدخول إلى الأوبرا من حيث التقيد بالثياب الرسمية وربطة العنق موضحاً بأن المظهر الخارجي لايدل على الثقافة، لأنها فعل وليست شكلاً، “الثقافة بالفكر والذوق والقول مو بالطقم”ليصل في نهايته إلى الدور الكبير للثقافة في الوقوف في وجه الفكر الظلامي بكناية واضحة من خلال دخول الأوبرا “لو كنّا نحضر أوبرا، ما كان جرى اللي جرى” وتميّز المنولوج بحضور القانون للعازف عمران عدرا، والناي للعازف إبراهيم كدر في اللحن الأساسي.

“حارتنا ضيقة”
أكثر المنولوجات قرباً من الجمهور كان منولوج “الدولار” الأكثر مقاربة للوضع الاقتصادي والأكثر قرباً من الجمهور الذي تفاعل مع أداء مرعشلي الكوميدي الساخر، “كل ما بيعلى بتعلا الأسعار، نسينا اللحمة والفروج، والكبة والبابا غنوج”رافقه صولو الناي وإيقاع الطبلة والكاتم للعازف علي أحمد.ثم قدم منولوج “مين قال حارتنا ضيقة ومنعرف بعض، ما صدقنا يصير اللي صار حتى ناكل بعض” انتقد فيه الصراعات الدائرة والنزاعات وغياب المحبة التي وصفها” بأكبر كذبة”، أما منولوج “الأخبار” فكان مختلفاً إذ استُهل بصوت مذيعة تذيع جملة أخبار، وظّفها مرعشلي لإظهار نوع من المفارقات التي يعيشها العرب”آلاف الأطفال يموتون من الجوع والبرد، ملايين يصوتون من أجل سوبر ستار العرب” ليلحقها مرعشلي بمفردات ذات وقع “نفس الحكي نفس الأخبار، يا عالم اسمعونا” لتتغير الجمل اللحنية مع فواصل نغمات العود.

صدق نزار قباني
في منحى آخر اتجه مرعشلي نحو الرومانسيات والعواطف الرقيقة فكما قال على المسرح:اعتدنا على ضوء الشموع- منتقداً من خلال منولوج “زمن العواطف” قصائد نزار قباني التي تبوح بعاطفة الأنثى تجاه الرجل ومحبتها التي تعوضها عن كل شيء، لكن لمرعشلي رأي آخر:”بدها عملة صعبة حتى فيي تحسّ”.

“طاخ وطيخ ”
في القسم الأخير من الأمسية تغيّر الإيقاع اللحني مع منولوج “عم نفكر” الذي جاء بإيقاع لحني سريع ودار حول مقارنة بين مايدور على أرض سورية وبين ما تعيشه الدول الآمنة، وكله يعود إلى الجهل والفكر المريض، مستخفاً بمن يرى الصورة واضحة أمام عينيه وما زال لايعرف الجواب “العالم وصلوا إلى المريخ، ونحنا نازلين طاخ وطيخ، والحمد الله عم نفكر” لتنتهي الأمسية بمنولوج حزين يختزل كل معاناتنا طيلة سنوات الحرب “ماتت إنسانيتنا، مات الحبّ”.
ملده شويكاني