ثقافة

“تيسير السعدي” شيخ الفنانين السوريين

لُقِّب بشيخ الفنانين السوريين لكونه أحد أبرز رواد الفن السوري ومؤسسيه في القرن العشرين، وقد قضى أكثر من 65 عاماً من عمره في الفن متنقلاً ما بين خشبات المسرح وكاميرات التصوير ومايكروفون الإذاعة، ولكون معظم الفنانين السوريين الكبار كانوا من تلامذته كان من الطبيعي وضمن سلسلة “مبدعون” التي اعتادت الهيئة العامة السورية للكتاب إصدارها بشكل دوري ككتاب شهري لليافعين، تسليط الضوء على مسيرة الفنان السوري الراحل تيسير السعدي، الذي كان هاجسه وعبر مسيرة  فنية طويلة أن يقدم وبالدرجة الأولى فناً راقياً يصل إلى قلب الجمهور وروحه.
الفن النظيف
جاء في الكتاب الذي أعدّه وفيق يوسف عن حوارات كان قد أجراها مع السعدي أن السعدي كان يراهن على الدوام على الفن النظيف الذي يتحدى الزمن ويبقى في ذاكرة الناس طويلاً وها هو يوضح نظرته ومفهومه للفن بالقول: “مهما تقدمت التكنولوجيا ومهما صنعت من آلات فهناك دوماً أعمال تدخل من الأذن اليمين لتخرج من الشمال، في حين أن هناك أعمالاً معينة لا يمكنك أن تنساها ومهما حاولت تبقى ملتصقة بذاكرتك لأنها أعمال إنسانية وهي التي تحتفظ بالأصالة والعراقة معا.. هذه الأعمال تتميز بالصدق أساساً لأنها لا تموت، ويثني الكاتب يوسف على هذا الكلام، ويرى أن السعدي كان محقاً في رهانه الكبير مثلما كان محقاً في رأيه بأن المعاناة ضرورية للفنان فقط: “المعاناة تجعلك تدخل في صميم الحياة وأعماقها وتتعايش مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم وهذا يقدم غنى مهما جداً للفنان”.

أهمية الثقافة للفنان
وتحت عنوان “أهمية الثقافة للفنان” يشير يوسف إلى أن السعدي كان قارئاً نهماً متعطشاً للثقافة وقد جاء على لسانه: “في اعتقادي أن الفنان يجب أن يقرأ كل شيء من السياسة والفلسفة إلى التاريخ والأدب، لأن ذلك كله يصب في النهاية في صالح فنه لأن الفن إذا لم تكن له روافد تغذيه فسيجف بالتأكيد تماماً كالنهر يجف دون روافد”.
وحينما يتذكر السعدي انفعالاته الشديدة أثناء التحضير لعمل فني جديد يقول في الكتاب: “لكثرة عشقي للفن فإنني عندما أتهيأ لحضور مسرحية ما كان قلبي ينبض بسرعة كبيرة واضطراب، ولا أعرف ماذا ينتابني كعاشق يتحضر للقاء حبيبته.. هذا عندما أحضِّر عرضاً مسرحياً، أما حينما أمثل في مسرحية ما فإنني أنسى نفسي حتى في البروفات.

مجنون ليلى
بدأ السعدي تعليمه في الكتّاب وفي مدرسة اللاييك– معهد الباسل، وفيما بعد وفي عمر 13 سنة جاءت فرقة مسرحية فرنسية إلى دمشق لتقدم عرضاً مسرحياً بعنوان “أوديب” على خشبة مسرح هذا المعهد، وقد وقع الاختيار عليه ليشارك في هذه المسرحية من خلال شخصية ابن البطلة باعتبار أن ملامح وجهه كانت قريبة من الملامح اليونانية، وهكذا بدأت الانعطافة الكبرى في حياته وعشقه للفن الذي تحول إلى هاجس.. وشيئاً فشيئاً ساهم في تشكيل بعض الفرق الفنية وتقديم العروض في الحفلات والأعراس، مبيناً يوسف في الكتاب وعلى لسان السعدي أن أفضل دور قدمه في تلك المرحلة المبكرة من حياته كان دوره في مسرحية “مجنون ليلى” التي قدمها في دمشق وحضرها رئيس الجمهورية آنذاك تاج الدين الحسني وقد نصحه كل من حضرها بالسفر إلى مصر لدراسة فن التمثيل والتي تعرَّف فيها هناك على عمالقة أمثال أحمد شوقي وطه حسين وأحمد أمين وإحسان عبد القدوس الذي تنبأ له بالنجاح في بلده.

صابر وصبرية
وبالفعل حينما عاد السعدي إلى دمشق قام بتأسيس فرقة فنية باسم الفرقة السورية، التي قدمت الأعمال الفنية باللهجة الشامية ليتعرف بعد ذلك على القاص الشعبي المعروف حكمت محسن، وقد شكلا ثنائياً ناجحاً في إذاعة دمشق وإذاعة الشرق الأدنى، وليلتقي بزوجته الفنانة صبا المحمودي وقد شكلا ثنائياً فنياً ونجحا في تقديم آلاف التمثيليات الإذاعية وأشهرها مسلسلهما “صابر وصبرية” للكاتب وليد مارديني، وقد أثمر هذا اللقاء عن واحد من أنجح وأشهر المسلسلات الإذاعية في تاريخ إذاعة دمشق، وقد استمرت حلقاته من أواخر الخمسينيات وحتى منتصف الثمانينيات، ويشير يوسف  إلى أن تيسير السعدي نفسه كان لا يذكر عدد الحلقات التي قدمت منه، ولكنه يجزم بأنها تربو على ثلاثة آلاف حلقة.. وعن أسباب توقف المسلسل يؤكد أن السعدي قدم درساً ثميناً لكل مبدع وفنان حينما اعترف بأنه حينما شعر بأن المستوى قد هبط قال لمارديني: “لقد أصبحنا نكرر أنفسنا فلنتوقف هنا فهذا أفضل”.
رحل السعدي وهو يتحسر على حال المجتمع في يومنا هذا حيث كان يعتبر جيله أول جيل يتفتح على الفن والموسيقا والأدب، وهو الذي أدخل الفن والأدب إلى المجتمع وكان لديه أمل أنه سيأتي اليوم الذي يجد فيه المجتمع العربي، وقد أنتج فناً إنسانياً راقياً بمستوى عالمي ولكن يأسف أن  ذلك لم يتحقق.
أمينة عباس