ثقافة

“رقص بلا إيقاع”.. صرخة خلق ملوّنة

في مجموعتها القصصية “رقص بلا إيقاع” الصادرة حديثاً عن دار الغانم للثقافة في اللاذقية تتناول الأديبة هالا مرعي، عبر تسع قصص قضايا إنسانية قديمة ومعاصرة، تسبر من خلالها أعماق النفس البشرية والمجتمع.
وقد ارتأت مرعي أن تمهد لمجموعتها بإهداء يوحي بمضمون هذه القصص، نقتطف منه هذا المقطع:

“سيأتي وجهك/قبل الموت بقليل/يلقي نظرة أخيرة/على تجاعيد أملي/ستبقى الدروب كما هي/تأخذ عشاقاً آخرين/إلى كوخ من الجميز/يفتح أبواب السماء/لدعاء عاشق”.
إذا بدأنا في قراءتنا للمجموعة من الغلاف لابد أن تستوقفنا لوحة الفنان خلدون صقر التي تمثل امرأة غارقة في الحلم، وقد ساعد في إظهار تفاصيل اللوحة ومكنوناتها الفضاء الأبيض المحيط باللوحة وتماوج الألوان بين الأرجواني والأسود والأبيض، مما يوحي بالتكامل الفني بين الشكل والمضمون، بينما تضمن الوجه الثاني من الغلاف صورة المؤلفة وبيبلوغرافيا لإصداراتها، إضافة لكلمة الناشر التعريفية بالمجموعة.

مهارة السرد
وتظهر بوضوح مهارة الكاتبة في السرد القصصي، وتحكّمها في أسلوب طرح القضايا التي تناولتها في قصصها، حيث تناوب الأسلوب عندها مابين السرد والوصف، يضاف إليهما الأسلوب الحواري في بعض القصص، وقد عبّرت الكاتبة في مجموعتها “رقص بلا إيقاع” عن موقفها من الحالات النفسية والمجتمعية التي يعاني منها شخوصها، إذ مثّل رصدها لهذه الحالات صرخة ضد الظلم والقسوة التي يعيشها أبطالها، كما برعت في تحريك شخوصها بحرفية ومرونة، ويبدو واضحاً موقفها الموضوعي من هذه الحالات، وانتصارها للمرأة، عبر إجادتها في تشكيل تلك الشخصيات بسلبياتها وإيجابياتها.

بوح ملوّن
تنساب مفردات الكاتبة على صفحة روحها كما أغنية ترسم بحروفها حالات إنسانية بكل قلقها وارتياحها، حزنها وفرحها، أحلامها وانطلاقتها، فكان الورق رفيقها تبوح له ما يختلج في داخلها من مشاعر وأفكار، فأتى بوحاً ملوناً بأطياف الحلم بكل تجلياته، حيث الكتابة بالنسبة لها فعل حب بالدرجة الأولى، وعندما تلحّ عليها الغربة والوحدة ليس من رفيق تلجأ إليه إلا الكتابة، التي تبحث من خلالها عن فضاء أرحب وأوسع تنعتق فيه روحها من كل القيود، كما تنزع إلى الرؤية الصوفية من خلال حالة الدوران والبحث عن المطلق..عن الله. وهذا مانراه في قصة “صرخة في العدم” إذ تقول:
“إن روحي في حالة دوران دائم تبحث عن ملاذ دائم، عن حرية معتقة من كل قيد”. ص8.
كما تشير إلى قدرة الكتابة على التنبؤ واستشراف المستقبل والبدايات الجميلة لكل شيء.
“أجد في الكتابة مقداراً كبيراً من التنبؤ، وما أكتبه اليوم انكتب في أعماقي منذ سنوات طويلة، وقد يكون صرخة الولادة الأولى”. ص9.
ترصد الكاتبة في مجموعتها العديد من الحالات الإنسانية في مجتمعنا، كظلم المرأة ومعاناتها، وحالة النفاق الذي يختبئ الناس خلفه، مؤكدة على أن الكتابة تساعد على الانعتاق من أسر الذات والمجتمع.
“أنكشف شيئاً فشيئاً أمامك، لأن الكتابة هي عري الروح أمام القراء كي يصدقوها”  ص14.
وترى الكاتبة أن حالة الولادة حدث مفروض ومقبول، بينما الموت الذي يضع الأمور في نصابها، مقيت ومرفوض، يقتل أحلامنا ويدعنا نعيد ترتيب أوراقنا وأبجدياتنا بفقد أحبتنا كما في قصة “تقودني روحي”.
“إن الحلم هو نحن الذين نكتمل لحظة الموت. نحن أحلامنا”. ص26.

المرأة والحب
كما تلفت الكاتبة إلى المصادفة ودورها في حياتنا، والاختلاف بين تربية البيت في العلاقة مع الزوج، في مجتمع تحكمه أعراف وتقاليد قد تختلف عن التربية القائمة على الانفتاح وامتلاك الشخصية والثقافة بكل أشكالها، كما رأينا حالة الصراع التي تعيشها بطلة القصة “رندلى” الحالمة بالحب الكبير الذي لايهزم، وفكرت أنها ستكون للحب وليس لرجل بعينه، رجل قد تهجره بالتأكيد عندما يهاجر حبه قلبها” ص30
تطرح الكاتبة عبر بطلتها أسئلة حول الوجود والعدم، الحب واليقين هذه الأسئلة التي لاتموت في أعماقها. “فالإنسان يولد مريضاً بأسئلته” ص42.
وتتناول الكاتبة قصص الحب وخيبات المرأة وانكساراتها وخوفها من الغرق في بحر الحياة والحب، والحرص والحذر من الإقدام على أي خطوة في ظروف الأزمة والحرب التي نعيشها وانعكاسها على الناس عبر التفكير بالسفر خارج البلاد.
“آه كم تريد منه ومن هذا الزمن، كم تريد أن تنزل إلى البحر وتغيب بعيداً في الموج، أن تسقط يدها وهي تلوّح بالاستغاثة دون أن يراها أحد، دون أن ينقذها مهيار آخر” ص 70 قصة “مهيار”.

أنانية الرجل
أنانية الرجل وتعسّفه في الحياة والحب وحرمانه للمرأة من التعبير عن نفسها، كل هذا تعيشه بطلة قصة “رقص بلا إيقاع” التي تحمل المجموعة عنوانها عبر بطاقة تتسلمها من مديرها لحضور أمسية موسيقية، تتمنى أن يشاركها حضورها حبيبها الذي تأسره أنانيته ولايسمح لها أن تفرض عليه شيئاً حتى الحب. تدرك أن لحظات الفرح عابرة وقصيرة، وأن الحياة بلا حب هي رقص بلا إيقاع” فتردد “ماأروع الموسيقا.. لولاها لكانت الحياة مجرد رقص بلا إيقاع”. ص85.
ثم تعود الكاتبة إلى طرح حالة السلم والحرب برؤية رمزية من خلال شخصية “مواهب” الفنانة التشكيلية التي تتوق إلى حياة هادئة مع شخص يفهمها ويشاركها مر الحياة وحلوها فتوحي لها حالة زوجي الطيور اللذين وضعتهما في قفص، وكم هالها منظر العصفور وهو ينقر عيني أنثاه التي تنزف وهي جثة هامدة، بينما تطل سلحفاتها بخطى متثاقلة تحت درعها الواقي، تطلب طعامها غير مكترثة لما يحصل “الزمن يجعلك تكبر ولو تحت درع، هاهي وحيدة، سلحفاتها غدت معمرة، لن يجمعها قفص بأي أحد. ستقف الرغبة عائقاً بين ريشة تلون، ومنقار أحمر ينقر. الخلق هبة، ستكمل لوحاتها، وتطرز المفارش، وتتأمل، فما الحياة إلا تشكيل، ومعرض قد تعرض فيه لوحاتها”. ص92 قصة “تشكيل”.
في قصة “قلب الدانتيلا” تتناول الكاتبة حالات الطلاق وفقد الوالدين التي تنعكس على الأولاد من خلال “عتاب” الفتاة اليتيمة التي تفتقد للحنان والحضن الدافئ فيبقى قدرها في مهب الريح تتناهبها قسوة الحياة وصراعاتها، لكنها في كل سقطة كانت تنهض من جديد وترسم أملاً للحياة.
“شمس أخرى تضيء المكان، السنونوة في العش الأخير، بارد ولكنه آمن، تغطي كل السطوح العارية لأثاثها الأنيق بمفارش من الدانتيل والحرير، لم ير أحد قلب الدانتيلا أو يلمح خدوش الزمن فيه”.
من خلال قصص المجموعة نرى أن الكاتبة لاتسعى بشكل مباشر للإدهاش ولا للتشويق بل تكتب ذاتها كما هي، عبر شخوص قصصها، متجاوزة صعوبة الكتابة عن العام دون أن تفقد خصوصيتها التي تحضر حتى في الشأن العام، مؤكدة في تناولها للقضايا الإنسانية والحياتية على أن الكاتب ضمير عصره وأدبه مرآة الزمن.

سلوى عباس