ثقافة

ساحرة بورتوبيللو.. سمو الروح فوق عالم الحياة المادية

عبّر الشاعر اليوناني هوميروس في إلياذته عن كرهه الشديد للأنثى، واعتبرها هي الإرادة والذكر أداة طيعة في يدها لتحقيق هذه الإرادة، وأن الأنثى أكانت آلهة أم إنسان فهي عدوة الحكمة والمعرفة.
لكن الكاتب البرازيلي باولو كويليو يخالف الشاعر هوميروس في فكرته، باعتماده في رواية “ساحرة بورتوبيللو” على فكرة انبعاث الأم الكبرى التي تعتبر المحور الأساسي للحياة والوجود كتقليد تم قمعه لقرون طويلة، بعد أن كانت المرأة تمثل “سلطة” لها من الهيبة والاحترام ما يقارب القدسية، ويسعى عبر شخصية “أثينا” تلك الفتاة اليتيمة التي تتبناها عائلة لبنانية أن يترجم هذه الفكرة، وأن يضمنها اهتماماته التي احتوتها تجربته، واعتماده في إيراد أفكاره على تيمات من الكتاب المقدس.
يبدأ الكاتب أحداث روايته من خاتمتها، حيث توجد أثينا مقتولة في مستودع في شارع بورتوبيللو، ثم يعود بنا إلى تسلسل الأحداث الأولى إذ يقدم لنا شخصية أثينا من خلال شهادات يدلي بها أشخاص عرفوها أو ارتبطوا بها بعلاقة ما جعلتهم على اطلاع على تفاصيل حياتها، فنتعرف عليها عبر وجهات نظر متعددة، وما نعرفه من شهادات هؤلاء الشهود يكشف عن أبعاد شخصية تلك المرأة العشرينية التي كانت تبدو بسلوكها وتفكيرها وكأنها سبقت زمنها الذي تعيش فيه، إنها امرأة من القرن الثاني والعشرين تعيش في القرن الحادي والعشرين، امرأة ترفض الاستسلام لواقعها الذي فرضه عليها القدر، وتبدأ رحلة تمردها بالبحث عن والدتها الحقيقية وحافزها على خطوتها هذه حدسها وإيمانها المطلق أن الإنسان مثل الشمعة يحمل في قلبه النار المقدسة للحظات معينة، دون أن يعرف أين أُشعلت وبدأت، وهو قادر على فعل الكثير من الأمور، وتحقيق غايات شتى في الحياة بتحرير روحه من الطاقة السلبية التي تأسرها، وتركيزه على الطاقة الايجابية، وامتلاكه الشجاعة بالمضي في دروب الحياة، بطريقة يوظف من خلالها مداركه وأحاسيسه في خدمة ما يرغب في الوصول إليه.
“أثينا” امرأة متعددة الأسماء والانتماءات، فهي من أصل روماني لأسرة غجرية، تبنتها عائلة لبنانية، واسمها الحقيقي “شيرين” لكنها أطلقت على نفسها اسم “أثينا” ربة الحكمة والذكاء والحرب عند اليونانيين القدماء، وأيضاً اسم آيا صوفيا تيمناً بالأم الكبرى، وقد تزوجت في وقت مبكر وأنجبت طفلاً لتعيش إحساس الأمومة كخطوة أولى في مهمتها بتأكيد استمرارية وجود الأم الكبرى، وتعرّف الحب بأنه روح الأم الكبرى ودمها ولحمها، وتعلن لمن أحبته أنها إنما أحبته كما تحب إحدى الأرواح المنفية نظيرتها حيث التقاء الروحين في صحراء.
بعد طلاق “أثينا” من زوجها تستقل مع طفلها بعيداً عن أسرتها وتعمل في مصرف وتحقق فيه حضوراً لافتاً، وتبث في نفوس المحيطين بها الكثير من أفكارها، وتستقطب مريدين كثر يؤمنون بقدرتها على الاستشراف، فقد كانت تعيش حالات من التأمل الطويل، وتتنبأ بأحداث غيبية، كتنبؤها بالحرب الأهلية في لبنان.
في روايته هذه يتابع كويليو رحلته في البحث عن اليقين، ويضمنها أسئلة وجودية حول الخير والشر، وحقيقة الحياة والموت وما بعده، وماهية الطبيعة الإنسانية، ويبحث عن سبل الوصول إلى حالات تجلي الروح عبر عوالم الخط والرقص والتأمل، وكأن به يشير إلى غياب القيم الروحية عن حياة طغت عليها القيم المادية باسم الحضارة والتطور.
الصدفة تقود “أثينا” إلى التعرف على عالم الرقص الذي يحرر روحها من تبعات الجسد، وتركز على سرّتها أثناء ممارسة الرقص في إشارة إلى اعتبار السّرة نقطة انطلاقها في بحثها عن غايتها، فهي تمثل الحبل السري الذي يربط الإنسان حياتياً ووجدانياً بوالدته، ومن ثم يمثل الرابط الإنساني للوجود كله.
الأمر الآخر الذي يساعد “أثينا” في مهمتها تعرفها على البدوي في صحراء دبي الذي يعلّمها فن الخط ومدلولاته الفلسفية حول شخصية الإنسان وسيرورة حياته، هذه الفلسفة التي توظّفها في تقديم أفكارها للآخرين فبدت وكأنها تتنبأ بنهاية ما فتقول جملتها التي تلخص حياتها، وتمثل وصيتها: “عندما أموت ادفنوني واقفة لأنني قضيت حياتي كلها راكعة”.
من أكثر الشهود الذين أدلوا بوجهات نظرهم حول أثينا حضوراً في أحداث الرواية كان الصحفي “هيرون” الذي أحب أثينا كثيراً، وهي تعبر له أنها تحبه بالطريقة التي تريدها الشرارة الإلهية، وليس بالطريقة التي يرغب فيها المكوّن الإنساني منه، وتؤكد له فكرة الأم الكبرى عندما تخاطبه قائلة: “إننا نسكن الخيمة ذاتها التي وضعتها هي على دربنا.. هناك نفهم أننا لسنا عبدة شيطان لمشاعرنا، بل إننا سادتها”.
وتتطور مسيرة “أثينا” إلى أن تتحول إلى تجمعات لأعداد كبيرة من الراقصين يلتقون في مكان ما في شارع بورتوبيللو يؤدون فيه رقصاً جمعياً يتبعه تضرع جماعي إلى كيان يعرف بـ “آيا صوفيا”، وينتهي الاحتفال بعظة وصلاة جماعية للأم الكبرى مصدر المحبة، لكن دعوتها هذه تلقى الرفض والاستنكار من المرجعيات والمؤسسات الدينية، التي تصفها بالساحرة والمشعوذة وبهذه التهمة تُقتل، وحول هذه الفكرة يصرح الصحفي “هيرون” أن أثينا كانت تدرك أن اللقاءات في المستودع متى أصبحت حديث الناس محلياً، فسوف يقضى على مهمتها للأبد، ولم يكن هناك جدوى من مواجهة الحشد وإنكار أنها كانت ملكة، ساحرة، تجلياً ألوهياً، لأن الناس يختارون إتباع من يملك النفوذ، ويمنحون النفوذ لمن يريدون، وذلك سيعاكس كل ما بشّرت به وهو حرية الاختيار، والإبقاء على الأحلام التي ينبغي الإبقاء على نبضها في داخلنا.
لقد اتبع كويليو في روايته هذه أسلوباً مغايراً لرواياته السابقة باعتماده على تعدد الأصوات الروائية، ولم تقتصر الأحداث على مكان واحد، فشخصية “أثينا” تتحرك في أماكن وبلدان مختلفة ومتعددة، وتتفاعل مع أشخاص ذوي انتماءات متعددة، وكأن الكاتب يريد التأكيد هنا على أن الحقيقة الإنسانية ذات جوهر واحد مهما اختلف الزمان والمكان.
سلوى عباس