ثقافة

“اللغة في القصيدة الحديثة”.. تمرد أم محاولات فاشلة تحت مسمى التجديد

من يتابع الكثير من المخطوطات والمجموعات الشعرية الصادرة تحت مسمى القصيدة الحديثة، سيلاحظ غالباً اشتغال الشاعر على اللغة التي تأخذ الحيز الأكبر من اهتمامه، سواء من ناحية انتقاء الألفاظ أو التراكيب والصور، في حين يضيع الموضوع أو يصبح ضبابياً في أحيان، كثيرة فهل يأتي ذلك في إطار تمرد القصيدة الحديثة على القواعد والقوانين، أم أنه يعود لعدم وعي الشاعر بأهمية بناء القصيدة التي يشكل الموضوع جزءاً أساسياً ومهماً من تكوينها، وبحثاً عن أجوبة لأسئلتنا هذه توجهنا إلى مجموعة من الشعراء والنقاد لمعرفة وجهة نظرهم الحقيقية حول هذا الواقع الذي تعيشه القصيدة.

دليل عجز وثقافة سطحية
بدا الشاعر والناقد محمود حامد أكثر حدة في موقفه انطلاقاً من غيرته على القصيدة العربية، وفي ذلك يقول: الظاهرة الملفتة الآن وجود مجموعات كثيرة تخرج من المطابع لا علاقة لها بالشعر، بل هي كلام عابر يحاول من يكتبونه أن يعللوا قضية الخروج عن وحدة الموضوع، أو حتى عن الرؤية الجمالية في القصيدة على أنه تمرد على ما مر في الماضي، وأنه تجديد في اللغة الشعرية الحديثة، وهذا غير مقبول منطقياً بالمجمل، وهو دليل على عجز هؤلاء، وآخرون يأخذون عن بعضهم البعض الجمل وترتيب السطور على أنها شعر أو نص نثري، وفي الحقيقة ما يكتبونه لا علاقة له بالشعر ولا بالنص النثري أو التفعيلة، وهذا يدل على أن الخلفية الثقافية والفكرية لهؤلاء الكتاب سطحية. ولا ينكر حامد وجود  قلة من الشعراء الجيدين الذين مازالوا يحافظون على القصيدة التراثية الأصيلة، بلغة معاصرة تحاكي روح العصر والراهن الذي نعيشه، ونجد لدى هؤلاء الوزن والفكرة حتى لو كتبوا نصاً نثرياً.
ومن خبرته النقدية ومراجعته للكثير من المجموعات الشعرية على مستوى اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة، وحتى ما يصدر على مستوى الشعر العربي، يضيف حامد:  أصبح لدي “أذن” تميز بين ما هو عابر وما يطرح لتمزيق القصيدة العربية وإبعادها عن الخط التراثي، وللأسف حتى على مستوى الشعراء القدامى هناك من يريد تخريب القصيدة، ووجهة هؤلاء تصدر من خلال الجوائز الغربية المشبوهة. ويرى حامد أن مشكلة الكثيرين من الشعراء الذين وقعوا في مطب اللغة، والاعتماد على  الصور الجميلة التي يقدمونها ضمن إطار ممزق لا تربطها وحدة الموضوع أن هؤلاء لا يقرؤون كثيراً بل يعتمدون على الراهن والموجود حالياً، وفي ظل وجود هذه الفجوة بين ماضينا الشعري وحاضرنا يجب على هؤلاء الشعراء، وأقصد الجيدين، أن يعودوا إلى الماضي الشعري، وليس ضرورياً أن يكتبوا على نفس النهج والوزن والقافية، بل أن يستفيدوا من التجربة. ولا يعفي حامد النقاد من مسؤوليتهم إلى جانب الشعراء في إعادة صياغة التجربة الشعرية العربية الأصيلة.

البعد عن المباشرة
وفضّل الشاعر صالح هواري أن يبدأ إجابته على السؤال بتعريف الشاعر إلياس أبو شبكة للشعر، على أنه غفلة واعية وأحاسيس متشابكة، ولكي يستحيل إلى شكل فني يجب أن يتدخل إزميل الصنعة، ويعمل على تجسيد الجوهر الذي يختفي وراء تجاعيد الروح المسكونة بشرارات الإبداع، إلى جانب كون الشعر إحساساً ولغة، أي أنه يتشكل من مخيلة قادرة على خلق الإيحاءات والرموز والصور، عبر لغة مجازية تسعى إلى تشقيق غلاف النص والدخول إلى أعماقه، والكلمة بحد ذاتها لتكون شعرية يجب أن تنزاح عن مدلولها الحقيقي إلى المجاز، وهنا تفعل البلاغة فعلها في تشكيل النص.
ومن متابعته للنصوص الشعرية الحديثة اليوم يلاحظ هواري أن الشعراء يشتغلون على اللغة، مستعرضين من خلالها عضلاتهم الفنية بين جناس وطباق واستعارة، فتخرج القصيدة منفلتة وسائبة غير محددة الملامح، ويصبح الموضوع ضبابياً في أحيان كثيرة، وهذا الاشتغال على الشكل كما يقول لابد منه، شرط أن يحسن الشاعر التعامل مع اللغة تعاملاً فنياً واعياً، لأن البعض يميل كثيراً إلى النحت اللغوي ليحقق نصاً باهراً في الشكل، وهذا لا يعد تمرداً على القواعد والأصول، بقدر ما هو خروجاً عن إطار الموضوع، ذلك أن قصيدة الموضوع لم يعد لها وجوداً اليوم، فنحن نقرأ نصاً شعرياً قد يغرينا شكله الفني بما يحتويه من ظلال بلاغية تظهر فيها الصنعة واضحة، تشكل عبئاً على كاهل النص دون أن نعرف ما يرمي إليه الشاعر.
وعلى الرغم من كل هذا لا ينكر هواري أهمية اللغة لأنها الأساس الذي تقوم عليه أعمدة القصيدة، والتعامل مع اللغة يختلف من شاعر لآخر، والقدرة الفنية هي المعيار الحقيقي لخلق نص قادر على الإبهار والتأثير، ولا يمكن لأي نص أن يكون شاعرياً إلا إذا حمل رؤية خاصة تشي بموقف الشاعر من الحياة والوجود، وتتسلل إلى وجدان المتلقي لترفده بمعطيات المعرفة، وتسمو بأحاسيسه وتدفع به إلى الاستشراف والاستبصار والكشف، وإلا ما فائدة نص شعري يبدو كجرة فخار مزخرفة ولا ينتح بقطرة ماء، فالنص الجيد من وجهة نظر هواري هو الذي يتحد فيه الشكل مع المضمون، ولا مجال للجنوح نحو سوريالية ليس فيها سوى الهلوسات والأحلام والتهويمات وهنا يجدد شاعرنا دعوته لعودة قصيدة الموضوع من جديد، على ألا تبنى على المباشرة والتقريرية، بل أن تشكل لنا لوحة فنية تبهر القارئ وتصدمه بتوتراتها الداخلية وتهز كيانه من الأعماق.

مطب يقع فيه كثيرون
أما الناقد عماد فياض فقد اعتبر هذا السؤال أحد أسئلة الشعر المهمة التي ما تزال الإجابة عليها غير واضحة إلى الآن، وما يحدث بالفعل أننا نجد في الكثير من المجموعات الشعرية هذا الاشتغال على اللغة من تنميق بالكلام وحشد لصور وتراكيب ومفردات ليس لها ضرورة ولا تخدم القصيدة أبداً، وعند السؤال ماذا يريد أن يقول الشاعر نجد أنفسنا في متاهة، والسبب يعود إلى كون اللغة أضاعت الموضوع وبقيت القصيدة تحوم في دائرة اللغة فقط. ولا ينكر فياض أهمية الاشتغال على اللغة لكن بشرط أن يكون ذلك من باب التجديد كما فعل محمود درويش، أما أن تكون اللغة فقط للاستعراض فإن هذا لن يزيد الشعر إلا  غموضاً وضبابية. ويرى فياض أن ما يقوم به هؤلاء الشعراء لا يأتي في إطار التمرد على القوانين والقواعد لأن  التمرد لا يكون بهذه الطريقة، إنما بطرق أخرى من داخل القصيدة ربما لن يعرفها سوى الشاعر الموهوب والمطلع على حركات التجديد في القصيدة العربية على الأقل، منذ السياب ونزار قباني إلى خليل حاوي ومحمود درويش، عند ذلك سيكون قادراً على التمرد والتجديد، أما ما يحدث الآن ليس سوى عدم وعي  من الشاعر بأن القصيدة لا بد أن تكون متكاملة، إضافة إلى اللغة التي تعتبر إحدى روافع النص، لكنها لا تكفي لتعطي قصيدة، فلا بد من الاشتغال على الموضوع وروافع أخرى ربما الإدهاش والتكثيف أو الفكرة الجديدة، أو العمل على إبداع كيمياء خاصة لا يستطيعها سوى الشاعر الموهوب. ويؤكد فياض أن الاشتغال على اللغة فقط يمثل حالة سلبية لأنه يعمل على ضياع العناصر الأخرى الداعمة للقصيدة وللأسف يقع في مطب اللغة شعراء كبار، وربما هذا يعطي مبرراً للشعراء الشبان للعمل على اللغة فقط، والذي لا ينتج سوى الهذيان وهذا ما تشكو منه القصيدة الحديثة للأسف.

تطبيق لمقولة الأدب صنعة
وقدمت الشاعرة الشابة رنا بدري سلوم رأياً مختلفاً في إجابتها، فالشعر من وجهة نظرها أولاً وأخراً موهبة لا تُصقل إلا بالقراءة والمتابعة، ولابد أن يتأثر الشعراء بكل ما يدور حولهم، خاصة عبر متابعتهم لوسائل التواصل الاجتماعي التي نشرت القصيدة الحديثة لسهولة قراءتها وسرعة انتشارها، فعصر القصائد الطويلة قد ولى وإن كتبها الشاعر من سيقرؤها!.
وتتابع سلوم: أما أن نقول أن الشاعر لا يعي ماذا يكتب فهذا ظلم للشاعر ولمنتجه، لأن الكتابة في النهاية هي حالة وجدانية وقد يتعرض الشاعر لمجموعة من الضغوط أو التشويش التي تعبر عن فكرة غير مكتملة كما ذكرت، وهذا يضع اللوم على الشاعر بعدم رجوعه للقصيدة التي كتبها، وبالتالي عليه أن يعيد ما يريد أن يقوله بوضوح لكي يصل للقارئ بسهولة وشفافية.
أما عن عرض المفردات والتراكيب التي يستعرضها الكاتب في كتاباته فباعتقادها أنه يطبق مقولة الأدب “صنعة” يأتي بمفردات الآخرين ثم يدورها لتخدم فكرته، لكن الكثير منهم يفشلون في ذلك، فيضيع المضمون وتبقى الفكرة غائبة وضبابية، وفي النهاية الشعراء هم خلفاء الكلمة الطيبة التي لها تأثيرها، خاصة في هذه المرحلة التي نمر فيها، لذا علينا أن ندعم أي موهبة شعرية مهما كانت بحاجة إلى صقل لتخرج من شرنقتها.

جلال نديم صالح