ثقافة

«بلكة» و«أسعد» في دار الأوبرا

“وقلتُ أماه إن البرد يقتلني، هل يرتجى أيّ دفء خارج الوطن، قالت تدثر أيا قلبي، فقلتُ إن الصقيع صقيع الروح لا البدن”.
هذه الأبيات للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود غناها ولحنها المطرب السوري عبد النور بلكة، في الأمسية التي قدمها على خشبة مسرح الأوبرا بمرافقة فرقة الأنغام العربية بقيادة الموسيقي نزيه أسعد، تميّزت بإيقاعها الحزين وبرقة نغمات الوتريات.
والملفت أن بلكة استحوذ على إعجاب الجمهور بحنية صوته وأدائه قوالب الغناء العربي والطرب الأصيل للموشحات والأدوار ذات المقامات الصعبة والأوزان المركبة، إضافة إلى وصلة أغنيات شعبية، وفي الوقت ذاته الأمسية كانت فرصة لمشاركة فرقة الأنغام العربية التي أُسست لتقديم أنماط التراث الأصيل وأعمال الملحن عدنان أبو الشامات، وقد تمكّنت الفرقة بقيادة الموسيقي نزيه أسعد بمرافقة اثني عشر عازفاً للكمان والتشيللو والقانون والعود والإيقاع بمشاركة العازفة الوحيدة عزة حمود على الكونترباص، من عزف مقطوعات موسيقية صعبة تركت بصمة خالدة في عوالم الموسيقا العربية، وشغلت أغنية “يافجر لما تطل” التي غناها بلكة تحية إلى المطربة الراحلة نهاوند مساحة كبيرة من الأمسية التي امتدت قرابة ساعتين، لكن الجمهور تفاعل أكثر مع أغنيات الطرب المسموعة والمألوفة مثل أغنية صالح عبد الحي “ليه يا بنفسج” كلمات بيرم التونسي وألحان السنباطي، وفي القسم الأخير من الأمسية تغير الإيقاع اللحني وأصبح أكثر حركة وسرعة مع وصلة أغنيات شعبية أبدع بلكة بغنائها.
وترك حضور عازف القانون عماد حريرة انطباعاً جميلاً لدى الجمهور حيث عاشوا لحظات التأمل مع نغمات أوتار القانون بتقاسيم منفردة أظهرت براعة العازف وجمالية الموسيقا الآلية. وفي مواضع شكّل الثلاثي الشرقي _الناي ماهر عامر، والعود حسين علان، والقانون عماد حريرة وحدة موسيقية أساسية مع آلات الفرقة بالمرافقة اللحنية، وفي مواضع كانت الإيقاعيات فاصلاً موسيقياً، وفي مواضع أخرى اتخذت الجمل اللحنية سمة السؤال والجواب.
الأمر اللافت مشاركة بلكة في أمسيات الأوبرا، وربما لا يعرف كثيرون أنه لحّن عدة قصائد وكتب كلمات عن الشام ولحنها في ظل الأزمة مثل أغنيته “الشام رح ترجع مثل الأول”.
الحضور الكبير للأمسية يؤكد شغف الجمهور السوري بالتراث الموسيقي الذي خلّفه عدنان أبو الشامات وأعلام الموسيقا والغناء بعيداً عن الصرعات الموسيقية المنتشرة.
تقاسيم منفردة
استهل قائد الأوركسترا نزيه الأمسية بافتتاحية سماعي من مقام العجم اشتركت فيها جميع الآلات وفق النوتة الموسيقية ألحان عدنان أبو الشامات، تلتها وصلة موشحات وأدوار من مقام العجم الذي يتصف بالعاطفة القوية والسلاسة الموسيقية التي تتناسب مع حنية صوت بلكة، مثل موشح “هل وفى” كلمات نظمي عبد العزيز وألحان عدنان أبو الشامات، وموشح يا شقيق الروح كلمات عبد العزيز سعود البابطين وألحان عدنان أبو الشامات، تخللتها ارتجالات بلكة للآهات والليل، لينتقل إلى أغنية حبّ حزينة من أيام الوحدة بين مصر وسورية “حاجة تحير” كلمات أنطوان مبيض وألحان عدنان أبو الشامات، لكن الأغنية المميزة كانت “يافجر لما تطل” والتي تخللتها تقاسيم القانون المنفردة للعازف عماد حريرة، وبمرافقة بلكة في جملة “يا فجر روح لحبيبي وقولوا حبيبك غريب” ليشترك فيما بعد الناي والعود والقانون كثلاثي شرقي في”الليل بطوله ضلام” مع متابعة لحنية لكامل الفرقة، تبعها دور “كادني الهوى” كلمات محمد الدرويش وألحان محمد عثمان، وبدت الجمل اللحنية نشطة وبحركة سريعة وتناغمت الآهات مع الإيقاعيات إلى غريب الدار وأغنيات الطرب “ليه تلاوعيني وليه يا بنفسج” الأقرب إلى الجمهور.
ألحان بلكة وتوزيع أسعد
الأمر اللافت أبيات الشاعر عبد الرحيم محمود “لمقتطفات من قصيدة صقيع الروح”  التي لحنها بلكة وبتوزيع الموسيقي نزيه أسعد بإيقاع يتناسب مع معناها الحزين لمعاناة الإنسان من الغربة والبعد وفراق الأحبة معتمداً على مساحة رقة الوتريات وبالاندماج مع بقية الآلات، وأظهرت هذه الوصلة جمالية صوت بلكة مع ألحانه التي تعبّر عن مساره اللحني، وانتهت الأمسية بتفاعل الجمهور مع وصلة أغنيات شعبية غيّرت من المسار اللحني بدأت بموال “وهبت الشوق” ألحان بلكة، وتتالت “العزوبية والفل والياسمين ويامال الشام ويا طيرة طيري ياحمامة”، أحيّت التراث القديم.

ملده شويكاني