ثقافة

“نازك خانم”.. عندما تتمرد المرأة على ذاتها

تجربة الأديبة لينا هويان الحسن الإبداعية بدأت مع الرسم وليس مع الإعلام أو الأدب كما هو معروف، حيث كانت تجيد رسم البورتريهات، ثم اتجهت للكتابة حين أغوتها الكلمة لقدرتها على التعبير أكثر، ولكون الكلمة مراوغة وتفتح مجالا أوسع للّعب مع الحدث، وقد سخرت لينا الكلمة لتنفيذ بورتريهات لشخوص تدخل إلى أعماقها وتمنحها الحياة، وقد شغلت المرأة حيزاً واسعاً في رواياتها، حيث كانت بدايتها الأولى في عالم الكتابة مع رواية “معشوقة الشمس” ثم تلتها روايات عدة تدور حول قضايا المرأة وحياتها منها: “بنات نعش- سلطانات الرمل- ألماس ونساء”، و”نازك خانم” التي نحن بصدد تناولها الآن.
وفرت البادية التي عاشت فيها لينا طفولتها – كما تقول- فضاء مفتوحاً قائماً على الفوضى والحرية، فاستدرجها للظهور والتحرر من سجنها الذي سجنت نفسها فيه، ومنحها الجرأة التي لمسناها في “سلطانات الرمل” عبر معادل موضوعي هو متعة السرد، والجميل أنها لم تكن حيادية في تناول شخصياتها لقناعتها أن الحياد لاينتج أدباً، فقدمت نساء رواياتها حرات وجريئات، و”نازك خانم” كما قدمتها لنا الكاتبة سيدة فاتنة الجمال أخذت اسمها من جدتها لأبيها وقد كانت سيدة واثقة قوية اشتهرت باستقامتها، بينما نازك الحفيدة كانت مؤمنة بالنزوات، إذ تقول: “لابد من النزوات فلنكن شيطانيين قليلاً” وكانت تسخر من تخيلات أبيها بشأن تأثير الأسماء في البشر، ولم تحقق رغبته في الاستقامة التي تمناها أن تتحلى بها ولها قول في هذه المسألة: “الاستقامة تحد الحياة، بل وأكثر من ذلك ستضع في وجهنا الحواجز، ستكون الحياة مضجرة”، وتتساءل: “لماذا لايتركنا الأهل لأقدارنا، لكل ماتفترضه الحياة من ليّ وطي وتقليم، فلنكن مثل الحزن، ما من متاهة لايجد فيها طريقا له”.
كانت نازك امرأة مرحة وواثقة، كانت تعرف قدر نفسها واهتمام الرجال بها، حتى أنها كلما حضرت حفلة للطبقة الارستقراطية ظنت أن الأحاديث ستدور حولها، كما  كانت تعيش في المجتمع الدمشقي في القرن العشرين بجرأة، لم تكن تتمتع بها أي امرأة في ذلك الوقت. تقول في ص 24-25: “القدر لايحرف مساراتنا إنما يصححها.. أنا قدر والقدر لايُغزل لمجرد التسلية، كل قدر يروم حكاية”.
في “نازك خانم” تؤكد المرأة حضورها بكل ماتملك من إحساس بالتمرد على الدونية التي يحاول المجتمع أن يبقيها في إطارها، وامتلاكها لزمام أمورها وإثبات ذاتها.
سافرت نازك خانم إلى العاصمة الفرنسية، في النصف الأول من القرن العشرين، لتلقّي علومها الجامعية في السوربون، والتجوّل في أحيائها، ومجالسة مثقفيها، وارتياد معارضها ودور أزيائها، وكرّست نفسها وحياتها للغواية والتألق والعشق. في محاولة للخروج على صورتها الرتيبة والمتحجّرة التي صاغها عقل الرجل، والتعالي على منطقه التمييزي النمطي، وعلى إملاءاته واشتراطاته. أرادت أن تقدم نفسها بمرآة ذاتها، مستشهدة بعبارة المصممة الفرنسية كوكو شانيل: «كوني التي لا يمكن استبدالها، بأن تكوني مختلفة». لذلك اختبرت الحياة بحلوها ومرّها، ومارست كل أشكال الحياة لتثبت وجودها كما تحب، وبما يمكنّها من تطبيق مقولة “شانيل”.

المرأة المعاصرة
تستغل الكاتبة روايتها لتبدي رأيها في صورة المرأة، وما دار حولها من آراء لفلاسفة وفنانين، ونظرة الشعوب والحضارات الإنسانية إلى شخصيتها ودورها في الحياة. وتستحضر صُنّاع العطور والأزياء والأتيكيت والصاغة والمزينين الفرنسيين الذين ساهموا جميعهم في رسم صورة المرأة المعاصرة ومواصفاتها الجمالية والجسدية.
“مبكراً نضجت في مخها فكرة السفر بمعناه الحقيقي، الابتعاد والبعد والانفلات من القيود الاجتماعية، الهرب من الأهل، من إشارات التوقف وضجيج الأقاويل وإلحاح متسولي التمائم من الأقارب وزحمة ثرثرات الجيران”- ص90- 91.

حضور الرجل
يتجاذب “نازك” في الرواية نموذجان من الرجال بعقليتين مختلفتين. الأولى يمثلها مجيب شان الإيراني الأصل، وهو من المثقفين الذين يتذوقون الحياة والأدب، ويدركون المرأة وحاجاتها. وهذا ما استهوى نازك ودعاها للاقتران به. أما العقلية الثانية فتمثلت بـ “كمال بيك” المتشدد دينياً والمنتمي إلى الأخوان المسلمين، والذي يشكل انعطافة في حياة البطلة، ويكشف وجهاً آخر من وجوه القصة، فهو يخالفها بفكرها وطبعها، ويحاول أن يلجم اندفاعها نحو التحرر. فتتبدد سعادة نازك بسرعة لتجد نفسها محاصرة بمعتقدات مجتمعها الأصلي التي لم تتغير، فزوجها يحاول أن يفرض عليها ارتداء الحجاب لكنها ترفض الرضوخ لقناعاته، وتقرر أن تهرب منه عائدة إلى باريس لكن رصاصة مسدسه نسفت مخططها واغتيلت على عتبة باب بيتها قبيل سفرها بساعتين فقط. وغادر هو بعد هذه الحادثة للانضمام في صفوف جماعة دينية متطرفة، وتنتهي حياة نازك خانم نهاية مأساوية بعد حياة الصخب والتمرد التي عاشتها.
المحررة الثقافية