ثقافة

حرب الوجود ودروس التاريخ

العبر والحكم التي ترسخ في الوجدان الجمعي لأمة ما، خلال تعاقب السنين والدهور عليها، لم تأتِ من فراغ، أو من عدم الدراية الحقيقية بما قيل بعد تجارب عدة، لا ريب أنها مرت كنيزك ملتهب على من اختبرها، وخرج بحكمة قاسية منها، وهي برسوخها– أي العبر أو الحكم – من زمن لآخر، تؤكد مرة أخرى على أن إعادة التجربة بالشروط نفسها لن تعطي نتائج مختلفة، كما تؤكد أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الأحداث تتشابه، ففي حرب الوجود مثلاً، يتحدد الانتصار، أو الهزيمة من خلال الكيفية التي تتعامل فيها مع عدوك على المدى الطويل، لا من خلال المعارك المتفرقة التي يحكمها غالباً الكر والفر، أو ما يدور في فلكهما، فالمعارك لن تنهيك، كما أنها لن تنهي عدوك، لكن التفكير في استراتيجية تلك المعارك، هو من يحسم الأمر على المدى الطويل، خصوصاً في حال الحروب التي تكون الاختلافات الفكرية أو الأيديولوجية مصدرها وفتيلها المستعد للاحتراق في أي لحظة، وكم من معركة في التاريخ، كان هذا ديدن الانتصار أو الخسارة فيها، ليس أولها حرب طروادة، ولن تكون الحرب العالمية الدائرة رحاها الآن آخرها، مادام الإنسان لم يتعلّم بعد أن يتعايش مع أخيه العالمي بغض النظر عن الجنسيات، إلّا وفق سياسة الإخضاع والصراع على كل شيء، بدءاً بالموارد، وليس انتهاء بالثقافة الخاصة بكل مجتمع على حدة، والعمل على نشرها، ولو بالقوة في مجتمع لا تعنيه ربما، ولنا في القصة التالية خير مثال على ما تم إيراده سابقاً، خاصة في موضوع الحروب بمختلف أنواعها “فكرية- ثقافية- عسكرية..إلخ- والاستراتيجية التي يجب أن توضع بموضوعية وبكل هدوء وبرود أعصاب لا يصدّق أحياناً، على حساب المعارك المتفرقة أو الانتصارات الآنية.

تقول الحكاية:

كان “ماو تسي تونغ”يحترم “ستالين” كثيراً، ويعتبره قدوة له رغم الخلافات العديدة بين الرجلين خلال الثورة الصينية وخلال الحرب الكورية، وبعد وفاة “ستالين” 1953 واستلام “خروتشوف” مقاليد السلطة في الاتحاد السوفييتي، اعتبر “ماو” نفسه وريثاً لـ”ستالين” في زعامة العالم الشيوعي، حيث إنه رأى في “خروتشوف” رجلاً ظريفاً يفتقد للكاريزما وللثقافة التي تخوله أن يكون زعيماً للمعسكر الشيوعي، وهذا ما جعل العلاقة بين الرجلين متوترة نوعاً ما، إلّا أن التوتر الجزئي تحوّل إلى توتر كبير وكلي بعد أن أدان “خروتشوف” عهد “ستالين”، فمن ناحية رأى “ماو” أن “خروتشوف” تعدّى على قدوته العليا، ومن ناحية أخرى رأى أنه بذلك يهز أركان الشيوعية، ويعطي أعداءها المبرر لمهاجمة الفكر الشيوعي من خلال مهاجمته للعهد الذي دام أكثر من ثلاثة عقود، وهزم الفاشية، ونشر الشيوعية وفكرها القائم على تحقيق العدالة الاجتماعية حول العالم.

دامت العلاقة المتوترة بين الجانبين الصيني والسوفييتي حتى عام 1962، حيث أيّد “ماو” الاتحاد السوفييتي بقوة خلال أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة، إلّا أنه بعد انتهاء الأزمة، وسحب “خروتشوف” للصواريخ النووية من كوبا، وصف “ماو” الأمر على أنه “هروب من الكاريبي”.

بعد تلك الأزمة نادى “خروتشوف” بمبدأ التعايش السلمي مع الغرب، بمعنى أن الكوكب يتسع لعالمين مختلفين: شيوعي ورأسمالي، لا علاقة لأحدهما بالآخر، يعيشان متوازيين إلى أن ينهار أحدهما وحده، حيث كان “خروتشوف” يقول إن العالم الغربي الرأسمالي يحمل بذور فنائه داخله، بينما خالفه “ماو” تماماً في ذلك، فقد كان يرى أنه لا يمكن فصل العالمين، وأن عليهما أن يتداخلا ويتصارعا بكل السبل الاقتصادية، والسياسية، والفكرية، والاجتماعية، والحربية إن اقتضى الأمر، ولا يمكن الانتصار على الرأسمالية سوى من خلال التعامل معها، ولعب لعبتها، لكن بقواعدنا نحن، لأنه، وعلى المدى الطويل، سيهيمن أحد العالمَين على الآخر، فلماذا لا نكون نحن، حسب “ماو”.

مع بداية السبعينيات انفتحت الصين على الغرب من خلال ما سمي بـ “دبلوماسية البينغ بونغ” التي أدخلت الصين لاعباً دولياً يتداخل مع الغرب، وأصبحت الحرب الباردة ثلاثية منذ ذلك الحين، انهار عالَم الاتحاد السوفييتي حينها، وكان ما كان من نتائج كارثية للدول الحرة جراء انهيار القوة والحليف الأكبر لها، وبقيت الصين التي حاربت الغرب بأساليبه لكن بقواعدها، ويبدو أنها على المدى الطويل ستنتصر، فالاعتكاف والدعاء على عدوك أن يموت سيعجل بموتك أنت، وسيجعل “غورباتشوف”- الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي- يصور إعلاناً لسلسلة مطاعم بيتزا “هَت” الأمريكية!.

روسيا الاتحادية اليوم العائدة بقوة إلى الساحة الدولية والعالمية من البوابة السورية، إن كان على المستوى الثقافي، أو الفكري، أو الحربي الداعم لها، أدركت هذه المعادلة جيداً، وعتها كما يجب خلال فترة انكفائها على نفسها، كما أنها تدربت طويلاً على تلافي هذا الخلل الذي كان أحد أسباب انهيار قوتها الأعظم في التاريخ الاشتراكي، فهذه الحرب العالمية التي تدور رحاها اليوم في المنطقة العربية عموماً، وفي وطننا بشكل خاص، لا تحتاج فقط إلى القوة العسكرية البحتة، إنها حرب فكرية في الصميم، وهذا ما تفعله روسيا اليوم، إنها تعيد آليات الفكر الفلسفي، والاجتماعي، والثقافي، والديني، والاقتصادي، إلى مفردات حياتها اليومية حتى في أعقد التفاصيل، وفي كل أنواعها، بعد أن غيبتها في فترة ماضية، وهذا ما يبشّر بأن هيمنة الرأسمالية لن تدوم طويلاً في ظل وجود حلف قوي وحكيم ومؤمن بقيمه وبقيم العالم الحر، والأهم أنه اشتغل على تلافي كل خلل أذاقه المرارة في الماضي، ولكم في التجارب والحياة حكم وعبر يا أولي الألباب، كما يقال.

تمّام علي بركات