ريم فاضل محمود: لي قلب لا أحس بنبضه إن لم يتمزق ألماً على ما تمر به سوريـــة
“الغناء مقود الشعر” واحدة من القواعد التي تؤمن الشاعرة “ريم فاضل محمود” بأهميتها للغة غنائية في طبيعتها كاللغة العربية، فكيف إذا كان الشعر هو نتاجها بصوره الشعرية الرهيفة، وأحاسيسه العالية التي تربت عليها بنت “السلمية” جارة “محمد الماغوط” و”علي الجندي” وغيرهم من كبار الشعراء والكتاب السوريين.
الصيدلانية التي تعلمت كيف تضبط وبدقة المقادير الكيمائية لهذا الدواء أو ذاك، سوف تتخلى عن هذا في عوالمها الشعرية التي تحب، فالقصيدة هنا ليست وصفة طبية، لكنها وصفة روحية، يجب أن تخضع لمعايير عالية من الجمال والإشراق والقدرة للولوج في دواخل القارئ. وفي الحديث عن تجربتها الشعرية وعلاقتها مع أحد أصعب أنواع الأدب وأكثرها تطلبا وتفرغا حدثتنا “ريم” عن ما يعتمل بدواخلها داخل النص الشعري وخارجه،فكان هذا الحوار:
< بداية حدثينا عن علاقتك بالقصيدة وبالشعر عموما؟كيف اكتشفت وأنت ذات المنهج العلمي حسب دراستك للصيدلة، أن الشعر يحتل هذا الحيز المهم في حياتك.
<< حين كنت بعمر أربعة عشر عاماً، لم يكن هناك توجه محدد لميول علمية أو أدبية،كنتُ عبارة عن طالبة مجدة في كلا المجالين، لكن شغفي للكتابة والتعبير عما أحسه بداخلي دون أن استطيع معرفة كنهه، كان يدفعني أن أمشي في هذا الطريق دون أن أهمل الجانب العلمي، فيما بعد وخصوصا حين اخترت عن رغبة الصيدلة كمهنة لي، لذلك أعتبر بأن القاسم المشترك بينهما هو أنا، وأني أجد نفسي في كلا المجالين،فأنا أمارس مهنتي بكل صدق وإنسانية، وكذلك أعبّر بقصائدي عما أريد أن يصل للآخرين، بغاية الصدق والإحساس،وكثيرا ما تشغلني الحالة الإنسانية فيما أكتب، الآن استطيع الجزم، بأنه لا توجد مفارقات جوهرية بين النزوع العلمي والإبداعي، حين يسعى الشخص لأن يكون متميزا عليه أن يشمل مجالات حياته كافة ليظهر هذا التميز، أنا لا أستطيع أن أفصل نفسي عن الصيدلة ولا عن الشعر،عليّ أن أتميز في كلاهما وأن يظهر الإبداع حتى في ممارسة المهنة اليومية، والتي هي على تواصل مع أوجاع الناس كما يمكن أن يكون الشعر في كثير من الأوقات حاملاً لهذا الوجع.
< أربع مجموعات شعرية كانت نتاج علاقتك مع العوالم السحرية للشعر،أخبرينا عنها وماالذي يجعلها مختلفة برأيك عن بعضها أولا وعن غيرها من المجموعات الشعرية التي تصدر هذه الأيام؟
<< عندما كنت اسمع عبارة “كلهم أولادي” كنت اضحك من هذا التعبير غير المنطقي، لكن حقيقة المشاعر التي تجمع بين الشاعر ونتاجه الشعري فيها الشيء الكثير من الحميمية الأمومية إذا صح التعبير، ديوان “ريتا”يحمل اسم طفلتي التي لم تأت بعد، فيه حالات الانتظار والترقب الممزوج بالحزن والألم،يتماوج معه الأمل كنسمات طرية تبث النور في حياتي، أما ديوان “جسور متأرجحة” فهو يتحدث عن تأرجح النفس الإنسانية بين حالات الفرح والحزن، وما تحمله هذه التقلبات من منعكسات على الشعور والملامح الحياتية للشاعر، وما ينعكس في وجدانه، “حلاوة الملح” ديواني الثالث، أهديته لسورية، لأمي الكبرى ولوجعها الذي هو وجعي أنا، قصائده فيها وجع الاغتراب واللجوء والفقر وآلام الشهداء،فيه حب للوطن حد الوجع، لا يخلو من بوارق أمل بالمستقبل، الذي سيبزغ قريبا بهمة السوريين الشرفاء، ابني الرابع “توحد مع القمر” وجداني عاطفي، تغلب عليه قصائد الحب وتلك المشاعر التي نختبرها في حياتنا بكافة أنواع الحب. المجموعات الأربع تمت طباعتها كلها في مصر لسببين، الأول: كان اختياري كممثلة عن سورية في التحالف الثقافي العربي، والثاني: أني وددت توجيه رسالة بوجودنا الفعّال نحن السوريين في الحياة الثقافية العربية، رغم الحرب مازلنا نتمسك بوطن هو لنا ولا بد سيتجاوز ما يمر به من أزمات، لينهض كالفينيق من رماد الحروب، أنا أكتب من قلب سورية ورائحة ترابها عالقة في روحي وقلمي، أحمل وجعي كصليب وأصلي للسلام في كل الأماكن المقدسة، في قلبي وعلى أرض دمشق أم الدنيا.
< كيف تنظرين للواقع الشعري العام وهل حقا أصبح الشعر شغل من لا شغل له؟
<< الحقيقة المشهد الثقافي يشهد تغيرات كثيرة منها الإيجابية ومنها السلبية، هناك شعراء مبدعون حقا، وبالمقابل هناك طحالب متطفلة على الأدب، وهذا ليس جديدا على عالم الشعر والأدب بل والفنون عموما، وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية في فرز ودعم الإبداع الحقيقي، ومحاربة الدخلاء على الشعر، بالنقد البناء أولا، كي نرتقي إلى مستوى ثقافي، يمثل ويعبر عن الثقافة السورية المعترف بعراقتها منذ القدم.
< أنت ابنة السلمية حيث “علي الجندي” و”محمد الماغوط” الذي خرج جميع شعراء النثر السوريون من معطفه حسب أحد النقاد، ألا يضعك هذا في مقارنة ظالمة بعض الشيء من قبل القراء والنقاد؟ وأيضا ما هو التحدي الذي تنجزه فيك على المستوى الشعري ميزة أو لعنة كهذه ربما؟.
<< أنا ابنة “سلمية” المنطقة التي يتنفس سكانها الشعر منذ الولادة، ربما البيئة الجغرافية أو الثقافية لها دور في ذلك لكني مع المبدع من أي مدينة كان، لأننا يجب أن ننحاز للشعر برسالته وعمقه وجماله لا لبلد الشاعر أو أي اعتبارات ثانية لا علاقة لها بالأدب بشكل فعلي، ولكن بالتأكيد كوني شاعرة من المنطقة ذاتها التي أنجبت “الماغوط” باسمه الكبير وعملقته الأدبية بأنواعها، ستكون المقاربة ظالمة ليس لي فقط، بل للكثير من شعراء المنطقة الذي أنجزوا قصائد فريدة في ألقها ولغتها، لكن هذا لا يعني في حال من الأحوال، أن لا أتقدم بنفسي وباسمي ونتاجي الشعري، والقارئ هو سيد الموقف هنا، بالنسبة للمسؤولية، اعتقد أننا كشعراء لا نلتفت لهذا المعنى عندما نكون نشتغل على نصوصنا، وإلا لما كتب أحد بعد ما كتبه المتنبي مثلا.
< كم هو صعب أن تكوني شاعرة ولها جمهورها في الوقت الذي تستعر فيه الدعوات الهمجية والمتطرفة، لتحجيم المرأة وإعادتها إلى عصور الرق والجواري؟
<< كوني أنتمي لعائلة منفتحة فكريا وثقافيا وزوجي وعائلته أيضا من نفس البيئة، هذا يجعل الأمر ميسرا جدا، الجميع حولي مع حرية المرأة ودعمها وقوتها وإفساح المجال لها للتعبير عن ذاتها، وأنا أيضا لي أفكاري وشخصيتي التي تعبت عليها فكريا وصقلتها بالتجارب فأمست الجرأة جزءا مني بخطوات مدروسة نحو أهداف سامية، ثم دعنا لا ننسى أنني من سورية، سورية زنوبيا وعشتار، سورية الثقافة والفكر، طبعا هناك في الموضوع شيئ من المخاطرة، باعتبار أن أي شيء متعلق بالحياة الحقيقية وبجوهرها الفريد كالشعر، هو مستهجن من قبل أعداء الحياة، فلا كنا ولا كان الشعر، إن كان لمثل هذه الدعوات أن تثنينا عن إرادتنا وشغفنا.
< ماهي اللقطات أو المشاهد أو حتى صور الحياة التي تركت الأثر الأكبر في وجدانك كإنسانة أولا ثم كشاعرة؟
<< لا يوجد لقطات محددة كل ما يتعلق بالحالة الإنسانية يترك أثرا عميقا لدي، ونحن الآن في مرحلة فيها الكثير من الأحداث والظروف التي تحفر عميقا في وجداننا.. بالنسبة لهذه المرحلة أكثر ما يعصر روحي هو أن تكون كلماتي رثاء لشهداء وطني، ولكن لطالما كان الألم منبعاً للإبداع ومحركاً له بقوة أكثر من الفرح، أنا كإنسانة وليس كشاعرة لا أستطيع أن أتجرد مما يمر به وطني وشعبه من آلام لا توصف،لا أستطيع التحليق في حلم بعيد عن هذا الواقع، لي دمع وهبته لأم كل شهيد قبل القصائد، لي قلب لا أحس بنبضه إن لم يتمزق مع كل نقطة دم سوري تراق غدرا، والآن نحن نمر بأوقات صعبة، نحن وسوريتنا التي نهوى ونحيا، فكيف للقلم أن لا ينفطر قلبه، وكيف للحبر أن لا يسفك دمعه؟وهنا يأتي دور كل شاعر، حيث عليه أن ينقل بأمانة إلى التاريخ ما مرّ بنا وما نعيشه، فالأدب يؤرخ الأحقاب الزمنية والشعوب والأزمات والحروب، والشعر يختزن بقوة إيحائه التفاصيل التي ستصبح شاهدا على ما يجري الآن، مستقبلا.
إلى سلمية
أنا ابنة مدينة يسامح فيها العجينُ رغيفَ الخبز والخباز والنار/على كل ما فعلوه بطحينه/ أنا ابنة هذه المدينة/التي علمت الحجارةَ الزرقاء على البكاء الأحمر/ كلما مرّت بقربها أقدامٌ مثقلة بالأرواح/ أنا ابنة المدينة التي يتشابه فيها القمح والسرو ارتفاعا ولونا/ ويستحيل فيها القطن إلى عزاء/ قلوبنا سكّر في زمن الملح وأيدينا جسور للشهداء/ كل الأنهار من الفرات إلى النيل في دمي/ كم مرّة أزهر لوز روحي في خضرتك/ كم مرّة كنتُ ليمونةً فلسطينيةً أو برتقالةً خضراءَ أو حبةَ زيتونٍ ساحلية/مراراً كنتُ طفلتك مأسورةً بدهشة تفاصيلكِ ومراراً كنتُ أهدهدُ لكِ لتنامي في أحضاني لتصمتي عن البكاء.
من مجموعة قيد الطبع.
حاورها: تمّام علي بركات