ثقافة

“الجنتل مان”.. حكاية الشهيد الضاحك أبداً

“جنتل مان” أحبّ هذه الصفة منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها على مسامعه من التلفزيون، أو ربما من المرة الوحيدة التي ذهب فيها إلى السينما، عندما غامر بأن يخرب ذائقته البسيطة بحضور فيلم سينمائي، أخذه رفيقاه إليه بالحيلة، من يومها ارتبطت عنده هذه الصفة بالأناقة، والرقي، و”الأكابرية”، حسب ما عرف معناها من المسلسلات المدبلجة، ما يعني زيادة في الجيل الخاص بالشعر، وبويا “الجسر” التي كان يستخدمها أحياناً ليضع القليل منها فوق شعره في حال لم يتوفر الجيل، فالشاب كان يحب الأناقة والشياكة، أما موضوع تدبر أمرهما فشأن آخر تماماً.
ما هو “الجنتل مان” إن لم يكن أنيقاً؟.. واحد من الأسئلة التي كان يرددها على نفسه وهو يقف أمام المرآة المتشحة بسواد لامع كئيب، ومع هذه المقولة التي صارت وكأنها من مقدساته الشخصية، واظب على جعلها لامعة كشعره الأسود القصير، خلال ما تبقى من حياته وبعناية بالغة.
أن يكون “جنتل مان” هذا يعني بالضرورة أن يبقى حذاؤه لامعاً لا أثر لأي تراب أو وحل عليه، رغم أن الوحول هي أول ما ينتظره شتاء، والغبار أو من يستقبله صيفاً إذا أراد الخروج من بيته، وهو في الحقيقة ليس بيتاً كما البيوت، لكنه عبارة عن غرفة، بابها يطل مباشرة على الشارع، وفي مواجهة باب غرفته، كان دكان سعاد، الخمسينية العزباء، والتي كانت أول من أخبره بأنه: “صاير جنكل مان والله يا جار”، قالتها وعيونها كادت تأكله، يومها ضحك كثيراً وهو يخبر صديقه، كيف لفظت جارته الصفة وقالت عوضاً عن “جنتل” “جنكل”، حتى إنها صارت من النكات المفضلة لديه أن يقصها لأحد الأصدقاء فيضحك معه عليها، وكأنه يضحك للمرة الأولى والأخيرة في حياته، وهكذا صار اسمه في الحارة بعد أن سمع كل أهلها بحكاية “الجنكل مان” تناديه بهذا الاسم، عوضاً عن اسمه الحقيقي، حتى إنه ومع تقادم الأيام لم يعد له اسم يذكر إلا هذا اللقب، وصار في الحديث يأتي ذكره على الشكل التالي: “البارحة كان الجنكل مان” يفعل كذا أو كذا، وهكذا.
في نهاية الطابور المصطف في واحدة من شعب التجنيد العامة، وقف الرجل وكاد أن يتسبب لنفسه بمشكلة، بعد أن نودي على اسمه ثلاث مرات ولم ينتبه، وعندما سأله أحد الجنود عن اسمه وأخبره به، طلب إليه أن يهرع إلى كوة تسليم الهوية المدنية، حتى يتم أخذ قيوده مرة أخرى في حال طرأ عليها أي تعديل، بعد أن كان قد قضى خدمته العسكرية في واحدة من القطع العسكرية الموجودة في العاصمة، وها هو بعد أكثر من عشرين عاماً على استلامه هويته المدنية، يعيدها ويلتحق بالجيش، لقد تم طلبه إلى الاحتياط، وليس “الجنتل مان” من يتأخر عن طلب كهذا، أما سبب الإرباك الذي وقع في شعبة التجنيد، فقد شرد صاحبنا في حكاية “الجنتل مان”، وصار يضحك بينه وبين نفسه عليها، وهو واقف ينتظر أن يُنادى عليه، وعندما حدث ونودي عليه، تم طلبه باسمه الحقيقي، وهو ما كان قد نسيه تماماً بعد أن فاز بلقبه الطريف.
في القطعة العسكرية التي التحق بها والحرب تدور رحاها كطاحونة معدنية ضخمة جداً، كان أكثر ما أذهل رفاقه الجنود وحتى قادته العسكريين المباشرين، أناقته الشديدة، الحذاء العسكري يلمع، البزة نظيفة وكأنه ذاهب إلى حفل شاي، وحدها السيدارة العسكرية لم يستطع تحمل أن يضعها، وكذا الأمر انسحب على الخوذة، التي لم تكن موجودة، عندما دخلت ثلاث رصاصات رأسه بعد عام ونصف من التحاقه بالمعركة، ومع مرور الوقت في قطعته العسكرية، علم الجميع بحكاية “الجنكل مان” فروحه المرحة أينما حلّ، كانت لتعدي الباقين بالضحك ولو كانوا على مسافة أمتار قليلة تفصلهم عن الموت، وهكذا صار اسمه أيضاً في الحرب “الجنتل مان”.
لم يتأخر “الجنتل مان” يوماً عن المعركة، كانت وكأنها وظيفته في الحياة، هو الذي عاش طوال عمره لم يلتزم بوظيفة واحدة، فمن عامل في فرن، إلى نادل في مقهى، ومن محاسب في مطعم صغير، إلى محاسب في شركة كبيرة، كانت آخر ما شغله، قبل أن يمضي إلى الحرب، لكنه قال يوماً لزوجته التي أخبرت الحكاية لأمه فيما بعد، أن روحه المضطربة بعد فقدانه للعديد من أحبته وخلانه، الذين أكلتهم المعارك الدائرة في الوطن، لم يُهدئ من روعها، سوى نومه في العراء مع رفاق السلاح، أو في واحد من الخنادق، التي حوصر مرة في أحدها مع بقية مجموعته لمدة ثلاثة أيام، صمدوا خلالها ببطولة أسطورية، بلا طعام ولا شراب، بل ومع قتال شديد، حتى تم فك الحصار عنهم، لقد كانوا يتبادلون المناوبة في فترات توقف القتال، بحيث يأخذون ولو قسطاً من الراحة بشكل متقطع، ولطالما تبرع بقسمته من النوم، لرفيق سلاح مصاب، أو لمن وجد في روحه وهناً ما.
“الجنتل مان” كان حبه للوطن صافياً ونقياً، لم يذكر له يوماً أي انتماء سياسي، أو حتى موقف ثقافي، رغم أنه حاول أن يقرض الشعر ذات فتاة أحبها، لكنه بعدها اكتفى بالشعر الذي كان يحبه في أبيات العتابا، تلك التي كان لا يمل غناءها حتى والرصاص يحوم فوق الرؤوس “تركتني يا رفيق العمر وقفيت، وبعد عينك ليالي الطرب وقفت، لو أنو يقبل المتعال وقفيت، حياتي وقفتها والأمل خاب”  كان من المواويل التي سمعه الرفاق يغنيها بحزن شديد، لكن أحداً ما لم يسأله منهم، من هو هذا الذي تنعيه وتناديه، فلقد حدث وسأله أحدهم عن ذلك، فأجاب بابتسامة تشبه المُقدم على البكاء، لكنه يتحول سريعاً لإلقاء نكتة، طالباً إلى السائل “الله يرضى عليك، خلينا مبسوطين لا تعكرنا” “خلينا مبسوطين!!” رددها رفيقه باستغراب وقال: “هنا في الجحيم، وتطلب أن نبقى مبسوطين!” والحقيقة أن “الجنتل مان” لم يكن يوماً من مريدي الكآبة، فحياته كانت قاسية بما يكفي، وما مرّ به من فقر وجوع وحزن في طفولته وفتوته، جعله متخماً بالحزن، كما أتخم زوربا يوما “بالكرز” وهكذا تخلص من حزنه كله دفعة واحدة، كما فعل “زوربا” في قصته مع الكرز، حدث هذا، كما روى أخوه الأكبر، عندما ارتدى البزة العسكرية، وخبط بقدمه على الأرض وهو ينتعل حذاءه العسكري اللامع مردداً جملة “محمود درويش” “اقرأ باسم الجندي الذي خلقا من جزمة أفقا” .
على شاهدة القبر، احتار رفاق السلاح ماذا يخطون عليها عبارة تعبر عن روحه المرحة، لم تكن له وصايا من أي نوع بخصوص ذلك، كل ما أوصى به: “شباب أرجوكم إن مت، لا تتركوا جثماني بين أيديهم، وادفنوني في قريتي” لم يوص لا بأولاد ولا امرأة ولا أي شيء إلا بما أوصى به، إلا أن أحدهم خطّ بغصن فتيّ أخذه من شجرة زيتون مجاورة للقبر، وكتب تحت اسمه على الإسمنت الطري “الجنكل مان” وهكذا، صار كل من زار قبره وبعد أن يتلو على روحه الفاتحة، يضحك وهو يتذكر حكاية اللقب.
قالت أمه: رحمه الله، حتى وهو تحت الثرى، يضحك الناس عندما يزورون قبره الذي صار مزاراً للفرح، لا للدموع.

تمّام علي بركات