ثقافة

“أنعم بالعمى”.. نفاذ البصيرة ونزق العبارة

عنوان هذه المجموعة ليس عتبة لها فقط فهو يحيلك إلى أعمى ساراماغو في التناص اللفظي وإلى بورخيس والمعري وغيرهما في تجربة الاستنارة.

يخلق التناقض بين حدي العنوان المكون من كلمتين فقط، حقلاً جماليا مبهماً، فالكلمة الأولى الفعل “أنعم” تنفي عن الثانية – الاسم- الدلالة الأهم لمدلولها وهي النقمة والانغلاق. الحقل الجمالي هنا حادث بالاستنارة وهي بدورها لا يمكن أن تحدث إلا بالتقصي و الإلهام.

أستنير في العمى

وأكتب حكمتك ببداية التكوين

لحركة الحياة

وكأن العمى هو العودة  إلى العماء البدئي لبنة الخلق والاستنارة هي حكمة التكوين الحادثة  في  طقس الغمر، الماء والطين.

من  الإهداء الذي أتى  شعرا  يبدو الشاعر عارفاً بأنه لا قبيل للشعر بالإفضاء بكل حزنه، فخلف كل حزن، حزن آخر:

مرج أحزان هذا القلب

مواسم…

في الشطرة الأولى يبدو التناقض واضحاً في التركيبة اللغوية، هذا التناقض بين المكونات اللفظية يحيل دلالاتها المألوفة إلى مدلولات جديدة، وهذا بدوره يؤدي إلى انزياح جمالي، فالمرج أخضر وهو في المألوف لون الخصب، الفرح الازدهار، ولا يتفق مع الحزن الذي يأخذ لون السواد في الغالب.

يتكرر هذا التناقض الذي يعمل على تبئير الأثر الجمالي في أكثر من نص في المجموعة:

أفرد للفجيعة

مساحة القبلة

وفي نص آخر:

أن يكون لإلحادي هذه الجاذبية

وأكتسي العري

الملاحظ أن العمى يرد في أكثر من مقطع وبشكل متناقض في المعنى، فهو يرد في مقطع قائم على سؤال و جوابه:

لمَ تكتب..؟

لأنعم بالعمى..

وكأن العمى هنا مسوغ الوجود وهو هدف وغاية لكنه ليس العمى التقليدي أي القصور عن البصر بل النفاد إلى البصيرة، وهو كما الكتابة غوص في المعنى واستنارة متأتية من وعي عميق وكشف شامل.

وفي نص آخر:

دائرة غير مكتملة

دائرة..

زاويتها الحادة

هذا العمى

هنا يبدو العمى نابيا عن الدوائر الرتيبة للحياة والتي لا تكتمل أبداً، نابياً وحاداً وكأنه يطعن تلك العادية العقيمة الساكنة، لكنه هنا يتلبس لبوساً حاداً ضيقاً، العمى هنا رؤية محاصرة لكنها مؤثرة.

يحضر الموت في عدة مقاطع ففي المقطع التالي يغدو الرفض الذي يفضي إلى العري، والعري هنا عودة، علامة للموت ومقدمة له:

أن يكون لإلحادي هذه

الجاذبية

وأكتسي بالعري

أموت

في حين تبدو الحياة كأساً قاربت أن تفرغ وسلافة هذا الكأس وجهها، وهو ختام الحياة بدء الموت:

ولا أنسى

أن آخر الكأس

قبيل الموت

وجهك

الذي قطفني

وراح

يأخذ الموت معاني أخرى فهو الدهشة  في أقصاها:

هل موت رهيف

هذه الدهشة

بينما نجد تناصاً في المعنى بين مقولة نيتشة “غالباً ما نحلم عندما نفكر بالموت” وما ورد في المقطع التالي:

كحلم يتشعب على

ضفة الموت

ثمة مقاطع تحضر الصوفية فيها ولو أنها لا يمكن أن نعتبرها صوفية بحد ذاتها رغم حضور مفردات الصوفية فيها ومحاولة استحضار طقوسها:

هل خلاص صوفي

هذا الانكسار

فالانكسار هنا ينتهي إلى الروح، الروح التي وصلت في الخسارة حد الانكسار فأدركت ذاتها

في مقطع آخر:

كصوفي أهلكه الجمال

فأمعن في الفناء

أستغرق في ملكوت تفاصيلك

وأمعن في الصفاء

والفناء هنا ليس الموت والعدم بل التماهي في الجمال إلى درجة فناء النفس في الآخر الكل، وهو في جدلية دائمة مع العشق الذي  يشكل أحد الحدود القصوى للحياة.

ليس هناك عناوين لمقاطع المجموعة، وكأن عنوانها هو عنوان لكل مقطع، أو أنها نص واحد بمقاطع متعددة، ربما سيأتي العنوان نافلاً لا لزوم له لقصر المقاطع.

ثمة ألفاظ تتقاطع عندها أغلب نصوص المجموعة، وهي تشكل أساس القاموس الشعري وبالتأكيد تشكل دلالة على مناخ المجموعة (الموت، الظل، العشق, السر، الماء، الحزن، الحياة) إضافة إلى ألفاظ أخرى وتواترت بشكل أقل.

النصوص في مجملها مقتصدة في اللغة لا تخفي توترها، قلقة بعضها يبدو مبتوراً وكأن ثمة ما يجب أن يقال ولم يقل وبعضها قصد الشاعر أن يكون كذلك وهذا واضح من النقاط التي أنهيت بها الشطرة الأخيرة، وكأن الشاعر يترك للمتلقي أن يكمل أو أنه لا داعي لأن يفعل ذلك:

الرقص..

مجاز حضور

في….

هذه النقاط وردت في بداية الشطرات في نصوص أخرى وهو هنا كأنه يقفز عن كلام لا يباح  وعدم إيراده أبلغ وأكثر دلالة، وفي هذا رهان على حسن التلقي:

اكتبني…

شاهدة قبر

بلا هوية

…….يا لصمت

هذا التقاطع

تبدو  النصوص وكأنها تضيق بالحساسية المنداحة الحادة التي تضج في وجود الشاعر، وهذا ما خلق التوتر الذي أشرنا إليه سابقاً، بعض النصوص بدت وكأنها مجرد تلميح، لكن هذا لا ينفي أنها نصوص  تتسم بالخصوصية الإبداعية والأثر الجمالي الثري، وهي بمجملها يلزمها سوية عالية في التلقي.

مفيد عيسى أحمد