ثقافة

التشكيلي السوري “بطرس المعري” في “الدّكانة”

لا يكتفي “بطرس المعري” دمشق 1968 من التجوال الحرّ بين خزائن الذاكرة، سواء تلك التي خزّنت الحياة كصور ومشاهد سينمائية، يستطيع أن يراها بوضوح كلي وكأنه يتنفس حتى هواءها، أو تلك التي اكتفت بالاختزال أو الترميز، لحالات مرّ فيها الفتى الذي عاش الحياة على أنها حكاية وقف يستمع ويتفرج على فصولها، حتى قرر أن يصبح من رواة بعض فصولها وفق ما دّرب روحه عليه من أسلوب، يستعين به على تلك المهمة الشاقة، ومؤخرا قام بفتح “دكانة” لتكون بياعة “فرجة” من لون وطعم ورائحة!.

إنها “دكانة” وحسب، ليست “سوبر ماركت يخشى  معظم الناس أضواؤه اللامعة ورفوفه المكتظة بمئات الأصناف التي لا يعرفون ولا يريدون، بل بكل بساطة هي “دكانة” فيها سكاكر “وبمبون” و”نوغا” وروائح وفيها أيضا معرض تشكيلي حمل هذا الاسم بدلالته “الفرجوية” الأليفة “دكانة ” المعرض الفني الذي رعته وزارة الثقافة للفنان السوري الغائب الحاضر “بطرس المعري” في صالة تجليات بالمزة. وإذ أقول الحاضر الغائب، فلكونه جسديا خارج مدار أفلاكه الدمشقية وأجوائها العجائبية التي سحره ولا يزال بريق جمالها الحسي الكامن في أبسط التفاصيل وأكثرها مهابة حسب الناظر، لتحضر تلك التفاصيل المألوفة في نتاجه الفني بشكل عام، إن كان بمقولة اللوحة التي تحمل في منحنياتها رمزية عالية للمكان والزمان، أو في اللون المغاير للقاعدة، والذي يختاره “بطرس” وكأنه توقيعه النفسي هاهنا، فتارة يكسر باللون الأحمر الشحوب الماثل على الوجوه المتشابهة في الشكل ورد الفعل، رغم اختلاف آلية الحركة التعبيرية، بين مباشرة واضحة في التجلي، وغياب مقصود أو توارٍ مقصود لمعنى ينتظر المتلقي ليقول كلمته فيه، وتارة يأتي اللون الأصفر في بعض لوحاته ك “الشلحة” وكأنه غواية الدلالة، وروح المعنى.

تعددت مضامين اللوحات التي نسجها “بطرس” بحنين الغائب في “دكانته”، حنين الفاقد لما لا يجده مهما بحث عنه، حنين باذخ الدلالة الشكلية، يحضر في المفردات التي كونت زمنا عاش الرجل بين مفرداته، وها هو يقدم حالة انتقادية عالية لتغليب المفهوم الضيق للبيئة في الفن، على كونها – أي البيئة-هي انتماء ووطن وهوية، فهكذا عاشها في “حواري الشام” وهكذا رأى الحياة تمرّ فيها، عندما راح يحتفظ بذاكرته لتلك الصور، التي ستصبح فيما بعد، واحدة من أهم خامات عمله النقية، الصورة الصافية لحالة متعددة الأوجه، يضعها “بطرس” وكأنها امتداد لوني مظلل لزمن بات يغترب فيه غربة الروح والجسد، وها هي غربة الخيبة أيضا تدس اصبعها، خيبة الأمل من خطاب تغيرت مفرداته وصار كل ما فيه تجاريا للعظم، الخيبة من كون الكثيرين، لم يدركوا بعد أن ثمة وطنا على حافة الهاوية، وهذا “الكثير” للأسف ينهش في روح “المعري” فهو ينهش لحم ذاكرته، ويسرق خامه النقي الصافي، لكنه يقرر أنه سيعود إلى منبع ذلك الاحساس الهائل بالغربة، وفق رحلة يومية يحياها الرجل بين ألوانه وقماشه، لينتقي ما يأتلف في وجدانه كما لو أنه المتلقي أيضا، فبرودة صالات الفن التشكيلي، كانت واحدة من المعارك التي خاض فيها أيضا لأجله كمتلق أولا وكفنان، تلك البرودة هي ما عمل “بطرس” على طردها قدر ما أمكنه، إن كان باللوحات التي تحمل حكاية شاعرية نوعا ما “عرباية الذرة” أو باللوحات التي تقدم الرمز بطريقة بسيطة وموحية “المسيح الطائر”.

في دكانة بطرس، سيجد كل من يدخلها فوق رفوفها – حيطانها-العديد من اللوحات المختلفة الحجم والمتناقضة العناوين والتفاصيل أيضا، “غسيل منشور، مقاه طائرة، عرباية ذرة، وجوه تتكرر إيحاءاتها بين حال وحال، المسيح المصلوب، والصوفي الطائر، كتب عتيقة، علب الليل، وغيرها. ومن تلك البضائع العامة ستبدأ حكايات المعري” الخاصة فيما رأى وشاهد وسمع وشم، وتخيل، حيث ستصبح اللوحة حكاية بحد ذاتها وأحيانا ستحمل رمزا لا تحتمل رؤاه التأويل، أما التقنيات التي استخدمها المعري فتراوحت بين الأكرليك والكولاج واستخدام الجرائد المطوية في مزيج من “الكوميكس” والبورتريه و الكاريكاتور، حسب ما تفيض عليه ذاكرته المثقوبة، بحنين باهظ لأمكنة وحكايات صارت تائهة في البعيد، هناك حيث لم يزل الطبع غلابا، والحياة المكبلة في جانبها المبهج، الذي لا يظهر منها إلا شذرا، تنفرج عن مشاهد قاسية أيضا، تركت ما تركت في دواخل الفتى، الذي تربى وعيه بين المآذن والكنائس والحمام الطائر بينهما وكأنه الرسول بهديله الأليف، لكن هذا صار ماضيا ورموزا ومفاتيح وعي وتجربة فنية مهمة، حملتها روح “بطرس” بين حناياها وكأنها إرثها البصري الباقي من تلك الذاكرة.

لم تنته لعبة “بطرس” بعد، ومن ظن نفسه لم يدخل “الدكانة” صار داخلها وهو لا يعلم ربما، فبين صحون “السكاكر والحلوى” التي كانت سائدة ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت، والموجودة في “دكانة أبو ماتيس” وقف الخيال على أقدام الذاكرة، مذاقات وألوان تختصر عالما بأكمله، راحت تذوب في فم الحضور، كما ذابت لوحات “بطرس” على قلوبهم، حيث قرر الفنان المقيم في “هامبورغ” أن تكون عناصر هذه التجربة الفنية والحسية مكتملة، وهذا لن يتم بلا روائح أليفة ومذاقات عوالم من زمن آخر، زمن ربما صار حلما وانتهى الأمر، وربما بقي منه القليل موضوعا على رفوف “دكانة” قديمة، جاء العديد من الأطفال الذين لم يكبروا بعد – ربما نسوا أن يكبروا- ليشتروا بقروشهم الصفراء بعضا منها.

تمّام علي بركات