ثقافة

خوان غويتيسولو.. عاشق العربية وحضاراتها المتعددة

“ضربات الطبول تتسارع عند المغيب، حينما تضاعف الشمس النحاسيّة خلف “الكتبيّة” مفاتن المدينة، وتبرزها في ما يشبه لمعان بطاقة بريديّة: الخضرة الفريدة لنخلات الحديقة العموميّة، ونور المغرب الباذخ في واجهات البيوت، والمباني الرسميّة. مناخ بالغ الصفاء من الأزرق الذي لا يفسد، والتجانسات البعيدة لجبل “ألأطلس” المطعّمة بأبيض نقي, ألق يسكر المرء، وينعشه، يلتحم بحمّى الرّقص والصّخب، ويهيئ الغريب للإحساس بشيء من الحريّة ضائعاً في هذا البلاط الشاسع المقام من أجل متعة الحواسّ، وخدرها ذائباً في هذا الفراغ الخصب لهؤلاء البشر الغادين والرائحين في حالة من التأهّب والفرح”.
هو جزء من نص رائع في رواية “مقبرة” الرواية؛ التي أهداها الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو لمراكش، تلك المدينة المغربية التي أغوته للاستقرار فيها منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث عاش كواحد من أهلها، تحدث اللهجة المحلية ونطق العربية بحب وإتقان يفتقده العديد من أهل اللغة ذاتها.

جرأة وخصوصية
وهناك حيث وجد جذوره الإنسانية فضلها لتكون مكاناً للحياة بعيداً عن كل الحسابات التي يمكن لها أن تدير عقل كاتب، كالبحث عن فرصة للانتفاع من موروث حضاري مختلف كما فعل العديد من المستشرقين أو لناحية الجوائز الأدبية والحسابات التي تحيط بها: “أنا بالفعل لا أفكر في الجوائز، وأحيانا أعتقد أنهم يمنحونها لي لكبر سني، إنه نوع من الخشية من فقدان الآخر والسعي إلى تكريمه قبل هذا الفقدان”. ورغم ذلك لم تخل جعبته من عدد هام منها، ففي العام 2012 نال جائزة فور مينتور الدولية للآداب، وجائزة “أورباليا” التي تعتبر الجائزة الأهم في أوروبا، كذلك هو حائز على جائزتي الأدب الأمريكي اللاتيني، والجائزة الوطنية للآداب الإسبانية، جائزة “بلانيطا” بينما أبدى سعادته الكبيرة لنيله جائزتين بالتحدي هما جائزة سرفانتس التي نالها في العام 2014 بعد عدد من الترشيحات لها وهي الموازية لنوبل بالنسبة للمتحدثين باللغة الاسبانية، حيث تم اختياره لأسباب عدة تضعها الجائزة في الحسبان أهمها التزامه الكامل والدفاع المستميت الذي أبداه دوماً حول ضرورة الحوار بين الحضارات والثقافات الإنسانية كافة. لذا فالكاتب الذي رحل في بدايات الشهر الحالي أحد الرموز والقمم الأدبية الاسبانية الذي أثارت كتاباته الكثير من الجدل ليس في بلده فحسب بل في مختلف الأوساط الثقافية والأدبية، لما تمتلك من جرأة وخصوصية إبداعية واستقلالية في الفكر ما جعله المثال الأكثر وضوحاً للتجديد في الأدب الإسباني.

بدايات وإنجازات
ولد غويتسولو في برشلونة في العام 1931، وكانت بداياته مع الكتابة في عدد من القصص والروايات أصدرها في أوائل عقده الثالث، روايته الأولى كانت بعنوان “لعبة الأيدي” والتي لفتت الأنظار إليه كمبدع قادم إلى عالم الرواية.
تنقل للعيش مابين فرنسا وكوبا وعدد من المدن الإسبانية، ومدن المغرب العربي، الأمر الذي أتاح له الانتقال من مرحلة إلى أخرى في الكتابة الأدبية والتي أخذت ملامحها الأساسية من خلال نقده اللاذع لواقع الحياة والمجتمع في بلده وهو ما تظهره روايته “بطاقة هوية” التي ينجو بطلها من أزمة صحية ليعود إلى منزله محاولاً إعادة ترتيب حياته من جديد في منطقة لا تزال تحمل كل ما تتفنن الحرب الآثمة في تركه من آثار وعلامات على الحياة بأمكنتها ومكوناتها وإنسانها.
من رواياته وأعماله الأخرى، الإشارات، الجزيرة، السيرك، نهاية حفل، عناوين هوية، خوان بلا أرض، وفضائل الطائر المعتزل، ومذكرات له أتت بعنوان في ممالك الطوائف، بينما شكلت “منطقة محظورة” نوعاً من السيرة الذاتية له، و”مقبرة” والتي أهداها لموطنه الجديد مراكش وفيها يصور جامع الفنا فيها بكل غرائبيته وخصوصيته الأمر الذي دفعه للعمل على جعله تراثاً ومعلماً ثقافياً محمياً من قبل اليونسكو.

حوار الثقافات
رحل عاشق العربية وهو على أيمانه باستحالة فهم ثقافة بلاده بعيداً عن استيعاب كامل للتراث العربي والإسلامي، ومعرفة حقيقية للثقافة العربية. وهو بالتحديد الأمر الذي كان يثير حوله ردود الأفعال والجدل الكبير لكتاباته ومقالاته التي غالباً ما ضمّنها نقده للمجتمع الاسباني ومثقفيه واتهامهم له بالانغلاق، في مقارنة منه مع الحياة وحركة الثقافة في المجتمعات العربية التي تشهد برأيه الكثير من التظاهرات والتحركات الثقافية الهامة، ذلك يأتي في سياق الدفاع المستميت من قبله عن الحوار بين الحضارات وضرورة الانفتاح على الآخر، بينما يرى مثقفي بلاده أكثر ميلاً للانفصال عن المحيط والانغلاق على الذات، ما يجعلها مرفوضة “ثقافة شعب ما وأمة ما هو خلاصة تمازج وانصهار ثقافي وحضاري على الأرض الواحدة” هو إيمانه ومثاله، هو الاستفادة الكبيرة التي حققتها بلاده والتألق والازدهار والقمم التي وصلتها خلال الوجود العربي الذي أكسبها تميزها المستمر حتى الحاضر من الزمن: “استيعابي وتمثلي للفضول الأوروبي الشره، جعلني أتحول شيئاً فشيئاً إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة والثقافات واللغات من مختلف المناطق الجغرافية. لا ينحصر عشقي وإعجابي وولهي بكيبيدو أو غونغورا أو ستيرن أو فولتير أو مالارميه أو جويس، بل يتعداه كذلك إلى ابن عربي وأبي نواس وابن حزم وجلال الدين الرومي مولانا.
وتابع يقول: “هناك عوامل إيجابية، وطاقات إبداعية هائلة مختلفة من كل نوع لهؤلاء وأولئك على حد سواء، فعندما يكلف المرء نفسه عناء تعلم لغة صعبة جداً مثل اللغة العربية، وقد جاوز السبعين من عمره، فإنه ينبغي أن تكون هناك دواعٍ عميقة جداً لذلك، فالكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس قرر تعلم اللغة العربية كذلك عندما ناهز سنه الثمانين، والحقيقة أن الدواعي موجودة”.
هكذا رحل الإسباني الذي اختار؛ وعرف كيف يعيش إنسانيته، من خلال تقبل الثقافات والحضارات الأخرى، والاختلاف لا الخلاف معها.
بشرى الحكيم