ثقافة

“ظلال الكلام”.. فايز خضور في مرآة نفسه

قلة ربما هم الذين يعلمون اليوم أن الأغنية البديعة “لا يدوم اغترابي” التي غنتها السيدة فيروز، هي من كلمات الشاعر السوري الخلاق فايز خضور-1942-لكن هذه المعلومة السريعة ليست هي موضوع هذا المقال، بل هو كتابه “ظلال الكلام” الذي أطل برأسه في معرض الكتاب مؤخرا وقال لي:اقرأ.
الكتاب ليس من نمط الكتب التي تختص بنوع أدبي معين، كأن تكون شعرا أو رواية أو قصة قصيرة، بل هو إعادة فرد أجنحة “خضور” فوق عوالمه التي رباها بحبر العين، وكأنها إعادة خوض التجربة مرة أخرى ولكن بمعرفة المعنى، بتوضيح التفاصيل التي اختبأت بين المفردات والحروف، تاركة لمدقق آخر أن يحزرها بعيدا عنه، لذا فإن الشاعر يعتبر أن الكتاب يضيء على شقائه الحياتي والأدبي، الذي عاشه في تجربته الملحمية الشعرية، حتى وإن ذهب لعدة فنون وأعمال أدبية أخرى، كالنثر، الذي عاد واعتبر أن لا وجود لما يسمى “قصيدة نثر” في الشعرية العربية، وسبق للشاعر “خضور” أن أقر بكونه مرر بعض المقاطع مما يسمى “قصيدة النثر” في أعماله الشعرية، معتبرا ذلك تسرعاً وتجنياً في تناول النصوص. وقد قام بعزلها من أعماله الشعرية ودفعها في كتاب النثر، ولم يعد إلى تجريبها فيما بعد، وبقي مخلصاً ومؤمناً بقصيدة التفعيلة كتوجه شعري وحقيقي في القصيدة العربية، معتبرا أن سبب خلافه الجوهري مع قصيدة النثر أنها تحمل موسيقى داخلية، ويقول: هذه الموسيقى لم “أتذوقها ولم أسمعها، فالموسيقى الداخلية إنما هي تجلٍ لموسيقى خارجية، وإذا كانت الأساطير تقول: (في البدء كان الغناء)، فلماذا يكون في النهاية الصمم.؟” والكلام طبعا للشاعر.
“ظلال الكلام” الذي يقدم للعديد من الرؤى والأفكار والأعمال والحوارات التي خاض بها صاحب المجموعة الشعرية -التنبؤية حقيقة- “الرصاص لايحب المبيت باكرا”- 1980- هو في طبيعته مختارات نثرية من أعمال الشاعر بين عامي (1965 ـ 2001) ويضم ثلاثة أبواب:
الباب الأول: النصوص الإبداعية (مسرح ـ قصة ـ نثر فني/قصيدة النثر)
الباب الثاني: انطباعات نقدية في الأدب والحياة
الباب الثالث: مختارات من الحوارات التي أجريت مع الشاعر خلال حياته ومن خلالها نجد الشاعر متكاملاً، لأن هذا الكتاب بحد ذاته يشكل إضاءات لا بد منها على مسيرته الحياتية والفنية.
أما بداية نصوصه في الباب الأول فهي “لا قبر للشهداء” التي يترك فيها الشاعر، للغته الشعرية أيضا أن تأخذ مكانها حيث يراه مناسبا، عدا عن كون الحالة نفسها التي تحيا المسرحية أجوائها هي حالة شعرية، الفكرة شعرية أو غيمة ربما، وهي منبثقة أيضا من الهاجس الذي طغى على العديد من نتاج “خضور” الأدبي، التي فيها كل ذلك التضاد الشاهق والتقارب الملتحم في نفس الوقت، بين الموت والحياة، الحياة الطالعة كشجرة زيتون من رحم الموت، واللافت أن شخصيات العمل أيضا، تجمع بين شخصيات حية وأخرى ميتة، وهي في محاكمة حيث يشتكي القتيل عندما لا يرضى القاتل.
أيضا ضم الفصل الأول عدة نصوص مختارة كنماذج مثالية عن طبيعة الشاعر الميالة إلى الجنائزية اللغوية إن صح الوصف، رغم أنه يختار مواضيع فريدة المدهش فيها غير عنوانها، هو تلك المزاوجة بين الرمزية والواقعية بحرفية صائغ ذهب، وكأنه يضع الكلام في ميزان الفكرة، ثم يدع للمبدع الخلاق فيه، أن يذهب نحو سرديات وصفية متتالية في الزخم الشعري الذي لا يخفت تدرجه في قصائد صاحب “الظل وحارس المقبرة”، زخم يجعل من الصور الشعرية المتتالية وكأنها مشهد سينمائي بخصائص سريالية أحيانا، ورمزية حينا آخر، يقول الشاعر في نصه “حوار في شوارع الصالحية” :
– لماذا ترتكب الشعر؟
– لأنني أعيش مصلوبا بلا طقوس
والأكابر سرقوا جلدي وصنعوا منه مناديلا للولائم
– لماذا لا تغني لغير الجدران المنهارة والفصول العشرة؟
– لأنني أحيا سجينا صامتا مع الفصول الأربعة.
– لماذا تحب بغايا العالم
– لأن أمي ماتت، وأكلوها كالتمر في غزوة الخندق.
الصقيع في رحمي تمساح نائم..
أيضا سيطل القارئ على نصوص شعرية متنوعة ضمها الفصل الأول ومنها “حوار مخجل في غرفة تحقيق سيئة” “هاجس” وغيرها من النصوص الرشيقة التي جاءت وكأنها تنويعات لحنية على وتر واحد باهتزازات مختلفة الشجن القاسي عند الشاعر، ربما لظروف القهر التي مرّ فيها، وخيبة المسعى التي رافقت اشتغالاته الأدبية منذ ستينيات القرن الماضي، حينها كان الشاعر مؤمنا بأن لغة الشعر يجب أن تتخطى لغة الواقع الراهن، لأن الفنون جميعها – والشعر خاصة – لن يكتسب محتواها دلالة وحيوية لولا الشكل –الهيكل الذي يطرحها ويحتضنها بأبوة غنية الاحتواء ضمن علاقة سبب ونتيجة ولا يتحقق استمرار أحدهما إلا بوجود الآخر.
أيضا سيطلع القارئ لكتاب “ظلال الكلام” على العديد من الآراء الإشكالية التي قدمها “فايز خضور” سواء في نصوصه التي ذهبت نحو النقد العالي الهمة للفنون الأدبية عموما والشعر بشكل خاص، عدا عن مجموعة من الحوارات القيمة التي ضمنها الشاعر أيضا للكتاب، باعتبارها امتداد واضح الدلالات لمقاصده التي تبقيها قصيدته متكئة على كثافة اللغة الشعرية، والحشد المتتالي للصور التي تنساب وتتجلى وكأنها راقصات إفريقيات يغزلن خصور اللغة ويضفرن لها جديلة مرمرية التكوين.
ظلال الكلام من منشورات وزارة الثقافة، ويمكن للقارئ والباحث الشعري اعتباره من الكتب المرجعية، خصوصا في باب الحوارات التي كان الشاعر فيها ورغم أجوبته الدقيقة كالسهم، تبدو لغته فيها وكأنها متضايقة من طبيعة ما تقدمه في هذا المقال، فالمفردات والكلام عند شاعر بقامة “فايز خضور” هي خيول برية تصهل فجرا على حافة جرف شاهق، تصهل عطشى لماء المعنى.

تمّام علي بركات