غسان شميط يجسد “ليليت السورية” عبر فضاءات الحبّ والحرب
منذ اللحظات الأولى لشارة الفيلم يضعنا المخرج غسان شميط إزاء ذاك الدخان الأسود المنبعث من بعيد من خلف المنازل، لتنتقل الكاميرا مباشرة إلى قذائف عشوائية في حارات باب توما تؤخر وصول حنين إلى مكان ما رسم ملامح الدهشة على وجوه الحاضرين، إلى خشبة مسرح صغير لمتابعة البروفة لعرض الرقص التعبيري، إيماءة من المخرج شميط إلى الثقافة بأنواعها التي كانت نوعاً من الخطاب المباشر الذي واجه الحرب الإرهابية إلى جانب السلاح.
“ليليت السورية” الذي تمّ اختياره ليكون فيلم الافتتاح في مهرجان وهران وأعيد عرضه في يوم الاختتام، أثار ردود فعل مختلفة لتمكن المخرج شميط من خوض فضاءات الحبّ والحرب، ونقل ملامح الحرب الإرهابية على أرض سورية بفنية غير مباشرة معتمداً على التضمين، من خلال توصيف الحدث أو الحوار أو من شاشة التلفاز لتتوقف كاميرته عند خبر عاجل..
في العرض الخاص الذي أقيم في صالة سينما الكيندي في دمشق بحضور المخرج والكاتبة جهينة العوام كاتبة رواية “تحت سرة القمر” التي استمد الفيلم أحداثه منها فشاركت المخرج أيضاً في كتابة السيناريو وبعض الأصدقاء والإعلاميين، عُرض الفيلم الذي لم يشدّ انتباهنا إلى وجع المواطن السوري وقهر الموت فقط، ولا إلى انعكاسات الحرب على حياتنا، وإنما إلى صراعات نفسية ومكاشفات ومواجهات وخيبات وعنف وقسوة، إلى سلوكيات تحيط بنا وتحكم قبضتها على كثيرين.
ومن خلال تقنية الاسترجاع التي كانت محوراً أساسياً لكشف خلفيات المشاهد وفهم أبعادها تلتقي خطوط الماضي والحاضر في مواجهة الواقع، ضمن مؤثرات الموسيقا التصويرية لسعدو الذيب المتماوجة بين رومانسية الوتريات وتأجج الإيقاعيات، وتلك الإضاءة الباهتة التي تعكس ما يدور داخل الشخوص، وبدت براعة مخرج الشراع والعاصفة في إقحام ومضات خاطفة أشبه بالنيزك الذي يفجر التساؤلات ويجبر المشاهد على العودة إلى ذاكرته والربط بين الأحداث، لتمضي أحداث الفيلم بين تداعيات وحقائق، وما يتبناه شميط ببعض أعماله بأن الدين لله والوطن للجميع، ولكن في هذا الفيلم تطرق بجرأة إلى ممارسات سلبية خلف ستار الدين، وإلى خيبة الجيل الجديد بشعارات أثبت الواقع عكسها، ليبقى الحدث الأقوى هو المرأة السورية وقدرتها على الاحتمال والتحدي.
مظاهر الفساد
تدور أحداث الفيلم بين دمشق وإحدى الضيع الصغيرة في الغوطة في السنوات الأولى للحرب لتتوقف الكاميرا عند الرجل المقعد نبيل – الفنان وضاح حلوم-في منزله مع زوجته سناء-علا الباشا- وابنته حنين –لانا شميط- التي أبدعت بأدائها وكانت محرّكاً فعالاً للأحداث، وأختها جوري- ليا مباردي، وبالعودة إلى الفلاش باك يظهر مشهد نبيل المسؤول يغادر مكان عمله مع مرافقه الشخصي وبعد لحظات من تشغيل سيارته يضغط المرافق على جهاز التحكم لتفجير سيارته لينتشله المارة وقد احترق جسده ووجهه، في إشارة واضحة من المخرج إلى الخيانات والانشقاقات والتعامل مع العصابات المسلحة، وفي الوقت ذاته تكتشف حنين خيانة والدها لأمها وانحرافه الأخلاقي من خلال مقاطع الفيديو على جواله، التي تصوّر مظاهر الفساد في الأوقات الخاصة التي يمضيها نبيل في مزرعته ، ومن تلك المقاطع يسترجع المخرج بكاميرته شريط أحداث الماضي، لتنتهي بمواجهة بين حنين وأمها التي عانت الكثيرمن خيانات زوجها وتعامله المهين وضربه لها.
دور المجتمع الأهلي
وعبْر خط اجتماعي آخر ينتقل المشهد السينمائي إلى سناء التي خصصت جزءاً من المنزل لافتتاح مطعم تديره وتعمل به مع عدة نساء من أطياف مختلفة تمثل الانفتاح والتنوع في المجتمع السوري، ليمرر المخرج بالتضمين من خلاله تبعات الحرب وانعكاساتها على الأسر المهجرة إثر الاشتباكات في المناطق الساخنة، لتنتقل الكاميرا إلى الحياة في مراكز الإيواء وإلى الأطفال وإلى إحدى النساء التي تعمل مع ثناء بتقطيع الخضار، لتظهر شخصية السائق (أبو محمود)–مشهور خيزران- الذي يقوم بعدة أعمال للمساعدة بأعمال المطعم، ولتتوقف الكاميرا في حوار صغير مع سناء عن تأخر وصوله بسبب الحواجز والأوضاع الأمنية، ليتصاعد دوره ويظهر المخرج من خلاله دور المجتمع الأهلي في إسعاف الجرحى إثر التفجير الذي وقع بساحة السيوف في جرمانا ونقلته شاشة التلفاز بخبر عاجل ليتحول المطعم إلى ملجأ ومكان آمن.
خلف ستار الدين
يدخل المخرج بتفاصيل الحرب السورية من خلال العلاقة بين الغوطة ودمشق وانتقال سناء من منزل والدها إلى دمشق، ومن ثم تهجير الجد والجدة من منزلهما الريفي الكبير والإشارة بشكل غير مباشر إلى الجهل والتخلف الذي كان سبباً مباشراً للتغرير بكثيرين للدخول مع العصابات المسلحة والمشاركة بقتل أبناء شعبهم، لتتوقف الكاميرا عند شخصية الحاج عبد القادر والد سناء-الفنان عبد الرحمن أبو القاسم- الذي يتمسك بشدة بتعاليم الدين ومظاهره الخارجية وخلف ستار الدين يسرق تبرعات الفقراء من خلال الجامع الذي بناه في الضيعة الصغيرة، ويرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب ليحصل على الحصانة ويحقق مآربه، فتدور حوارات صغيرة بين أحمد الذي كشف حقيقة والده وسناء، ليتابع الحوار بشكل آخر مع جوري وأختها حنين حول قسوة الجد وتحريمه أبسط الأشياء.
خيبة الجيل الجديد
يتطرق المخرج أيضاً إلى خيبة الجيل الجديد الذي عاش الحرب الإرهابية وكشف زيف العلاقات العربية –العربية من خلال المشهد في المدرسة الثانوية التي تعرضت لقذيفة بين جوري وصديقاتها حينما تعلق على مادة التربية القومية على مفردات تعبّر عن شعارات التضامن العربي والإخاء العربي التي أظهرت زيفها في الحرب، وإلى مادة التربية الإسلامية إلى الخيبة برؤية من يقتل تحت شعار الله أكبر إشارة من المخرج إلى ضرورة إيضاح الصورة الحقيقية للدين بعيداً عن التطرف.
في المشاهد الأخيرة من الفيلم يتعرض أحمد للاختطاف لتنتقل الكاميرا إلى ممارسات التعذيب والعنف ليصل الشريط السينمائي إلى مشهد اغتصاب أحمد من قبل رجال المسلحين، وكما ذكرت جهينة العوام فأنه أكثر مشاهد الفيلم قسوة، ليخرج منكسراً ومدمراً من الداخل ويستشهد في تفجير يقع بالقرب من المطعم، وبعد موت نبيل تظهر شخصية سناء القوية التي تتحدى والدها وتمنعه من التحكم بعائلتها وتستمر بعملها، ليتضح قربها من ليليت الآلهة التي تحمي أطفالها في الأساطير القديمة، ويقترب المخرج أكثر من ليليت حينما تتزوج حنين وتصر على تسمية ابنتها القادمة ليليت، في إشارة إلى الغد الأفضل القادم، إلى مستقبل سورية وإعادة بنائها.
وتلتقي سناء بعلاء من جديد لتبدأ صفحة جديدة من حياتها برمزية واضحة إلى سورية التي نهضت من جراحها بصمود شعبها،ويبقى المشهد المؤثر الذي يختزل تاريخ سورية ويمثل عروبتها الصادقة في مشهد العراقي الذي يودع أصدقاءَه في المطعم في حواره مع (أبو محمود) مشهور خيزران بقوله”معوضين ع البشر والشجر والحجر، معوضين يا سورية”. وقد أضاف المخرج غسان عبر “ليليت السورية” نجاحاً جديداً إلى السينما السورية.
ملده شويكاني