ثقافة

عزلة من ورق

هكذا وفي غفلة مما تبقّى من عمر الزمان, اخترت أن استمر في الكتابة, ربما لأن الكتابة قدري, وهي لعنتي, وهي التي تطهرني من إثم اقترافي للحياة, التي لم اختر فيها اسمي ولا لون عيوني ولا مكان ولادتي.

على شرفة أيامي كانت تطّل عليّ, مثل يمامة غسلها المطر منذ يومين وقبلة, تعيد ترتيب روحي المبعثرة هنا وهناك, تتلو على روحي ما تيسر من لذيذ القبل, ثم تقرأني في فنجان قهوتها, يا لروعة قهوتها, وأنا أتلعثم بلفظ اسمها وأصاب بدوار عبّاد رائحتها, بدوار البحر, وطلسمة سراب البيداء البعيدة, بدوار عطرها الذي يرديني مضرجاً بأحمر تفاحها.. بهمسها يعيد إليّ ما تبقّى من أمل أو من شجن, أو ما تبقّى من حنين لذكريات كانت ذات غفلة من عمرنا الهارب منا, مثلما تنسل أيامنا من (روزنامة) العمر, ورقةً ورقة تتساقط كأوراق الخريف. وتهرب منا كهروب العمر, هو العمر تلك الطاحونة التي تطحن أيامنا وأحلامنا بكل قسوة.

كنتُ ومازلت وسأبقى أكتب لها, متعتي في فعل الكتابة لها تتجلى في ذاك المسّ, في ذاك الخيط الخفي من السحر الذي قد يودي بي إلى الجنون…

استيقظت هذا الصباح على غير عادتي, في وقت متأخر جداً, ربما لأنني لم أشم رائحة قهوته الصباحية, ولم أسمع أغنية فيروز “بيتي أنا بيتك وما إلي  حدا.. من كتر ما ناديتك وسع المدى.. لاتهملني لاتنساني..”.

كيف انسلت من عباءة أيامي, هل تراها نسيت كتاباتي التي اكتبها بمداد الروح ونبض القلب وألق العين, والذي يقال ولا يقال؟!.

فنجان قهوتها الأحمر الناري, صحن السجائر الطافح بقهر الرمادي المحايد, الشال الخمري المعتق بنار الغياب المؤلم, الذي كان يرديني مجنوناً بجنونها الجميل, حين كانت تحيلني تارة إلى طفل مشاكس, وتارة أخرى إلى ملاك, ومرات إلى شيطان مهذب؟!

من بعد فقدان (ن) أخرج منتصف كل ليلة إلى أرصفة الحياة, أسير عليها بهدوء لأعيد ترتيب روحي الممزقة, هكذا ببساطة يحدث عندما نفقد من نحب فجأة, وأنا فقدت التي كانت تقرأني بكثير من الشغف, بكثير من الحب الذي كان وراء كل هذا النزف,الذي اقترفته من أجلها وحاولت أن أبدع فيه من أجلها، من أجل ابتسامتها التي كنت أعتبرها أكسير الحياة, لكن بعد غياب ابتسامة (ن) لم تعد الكتابة تستهويني, أو ترضي ذاك السحر الغامض الذي كلما تلمسته أو اقتربت منه بعيداً عن نون, شعرت بأنني “سيزيف” أو “دون كيشوت”, أنا الذي نذر لها ما تبقّى من أوراق العمر, كأنني أكتب فقط لها, لماذا نون النسوة لها كل هذا السحر والروعة والإلهام؟! وإعطاء الحياة تلك البهجة الخاصة بها؟

ها أنا بعد غياب (ن) ها أنا وحيد يا الله, بلا أحد, منهدّ, متهدم، مدمر, مقهور, حزين, شاحب, كئيب إلى حد يجعل أعدائي يشمتون بي, رباه لمن أكتب بعدها؟! من سيثني على ما أكتب بحب؟! ومن سيبتهج؟!

أعرف أني الضحية لكثير من الآثام التي لم أقترفها! بعد غيابها شيّدت لذاتي عالماً من مغلقاً من العزلة, عالماً من ورق الروح, أعيد صياغته بكثير من الحزن والقلق, وأقول: لعلّ نون يقودها لأن تقرأ ما أكتب, لكي أبتهج بما أكتب, أنام حين يستيقظ الناس.. أدجج عزلتي بالكوابيس والقلق.. أهرب مني إليها, في شقاء مؤلم جدا, ووحشة العزلة تسيطر على جدران الروح.

لعلّ الانكفاء والتواري أصبح قدرنا, فلماذا نحن غريبين عن هذا العالم, ولماذا علينا أن نعيش في كل تلك الوحشة, وهل ستبقى الكتابة تجدي لمقارعة كل هذا الشقاء؟! وهل ستبقى “الكتابة لعبة يومية مع الموت” كما يرى نزار قباني. نعم الكتابة هي قدرنا ونصيبنا من هذه الدنيا.

أحمد عساف