عن الفقر المدقع للمشهد الثقافي والفكري العربي
واحد من أهم الشروط الواجب توفرها بالأعمال الفنية أو الأدبية، أن تشكل بما تقدمه في مضمونها ومحتواها الفكري والأدبي والفني وحتى الفلسفي، حالة متقدمة عن المتلقي وعن وعيه، حتى تؤتي مهمتها في الجذب والإلهام وإحداث الصدمة أو الدهشة، وأي ردّ فعل آخر يجذب المتلقي، إلى هذا العمل بعينه دون سواه، بحيث تصبح قيمه بأنواعها التي يحملها–أدبية- فنية-فلسفية-اجتماعية-، هي من يصل إلى الناس، ثم يحصل التغيير المنشود في المجتمعات، فالمفكر أو الأديب الفيلسوف والفنان، هم من يبني شرائح الوعي الاجتماعي، الذي يؤمن بفكر هذا الكاتب، أو بالموهبة الفذة لهذا الفنان، -يسمي الروائي العالمي، “وليم فوكنر” في أحد لقاءاته الصحفية، الكاتب بالفنان- أو بالقيمة الاجتماعية والأخلاقية لذاك الفيلسوف.
هكذا كانت قيمة الكاتب الجيد والروائي المحترف والشاعر الحقيقي والفنان الموهوب، بين الناس، ليست كبيرة فقط، بل ويقدرونها حق قدرها، حتى أن بعض أفكارهم، تصبح أفكار المتلقي ذاته، ذائقته الأدبية والفنية، تصبح من ذائقة الروائي–مثلا-، الأكثر تأثيرا في روحه ووعيه، لذا لطالما كانت تلك الأفكار العظيمة، التي طرحها ذاك الكاتب أو التي قدمها هذا الفنان والفيلسوف والشاعر، هي من قامت بتربية وعيه– أي المتلقي-، وهي من صنعت في بعض مفاصل حياته، علاقته بالآخرين، بالناس الذين يختلط معهم ويحيا بينهم. وإننا إن نظرنا إلى التاريخ العربي بكل مراحله بل وحتى التاريخ الفردي لكل بلد عربي على حدة، فسنجد أنه ما من مرحلة مرّت على تلك الأمة أو ذاك الشعب، إلا وكان لها كتابها اللامعون، وشعراؤها العظام، وفلاسفتها الأفذاذ، وهذا التاريخ لا يبتعد في الزمن حتى يكاد يُنسى ويحذف من ذاكرة الناس، بل إنه كان موجوداً في الزمن القريب، الذي بقي فيه الاعتراف بقيمة الفن وأهله والأدب وأهله، قائما ومهماَ، وله أثره الواقعي والحقيقي بين الناس.
إلا أن نظرة عامة على المجتمعات العربية بعمومها وبحالتها الراهنة، سنجد فيها أن المشهد الأدبي والفكري والفلسفي وحتى الفني، فارغ تقريبا، من أي اسم لامع وله أثره الحاسم بين الناس، ليس في مجتمعه فقط، بل وفي مجتمعات أخرى، كما كان حال نزار قباني مثلا، أو طه حسين وسيد درويش.
ولكن أين يكمن الخلل أو الخطأ المفصلي، في مشكلة خطيرة كهذه، حيث درجت عادة أن يكون للشعوب أدباءها ومفكريها وفلاسفتها وفنانيها، الذين يترجمون لها العالم بالعديد من الصور والمقابسات الساحرة، ويخترعون عوالم أخرى يقدمونها لجمهور ليس بمقدوره أن يكون “ابن رشد وأبو النواس أو زرياب”، أيضا ليس هذا الجمهور مهما تغيرت الأزمنة، بقادر أن يكون “أدونيس أو محمد الماغوط” ولا حتى عمر النقشبندي، هل يكمن الخطأ المفصلي في الناس أنفسهم الذين أصبحوا بعد ظهور أدوات التواصل الاجتماعي، شعراء أنفسهم، وكُتاب أنفسهم، بل وقراء أنفسهم أيضا، وعدد اللايكات، هو من يحدد القيمة الأدبية لهذه الشاعرة وهذا الأديب؟ أم أنه يكمن في عدم وجود أسماء وقامات فكرية وفنية وفلسفية عربية، ذات مصداقية ولها ثقلها بين الناس في الشارع المحلي والعربي!، ولقد قمنا بقرن هذا الخلو المؤسف والمحزن بل والمفجع أيضا، للمشهد الثقافي والفكري العربي عامة، من القامات الكبيرة التي كانت قادة فكر فعلا، بمختلف أدواتها، قرناه بالتطور التكنولوجي وبثورته التي اجتاحت العالم، خصوصا بما يسمى أدوات التواصل الاجتماعي، لأن اختفاء هذه القامات من قادة الفكر في المجتمعات العربية وبعدة أشكال –منها الاغتيال-، تزامن تقريبا مع صعود نجم كل من “مارك” وتويتر” وغيرها من هذه الأدوات، تلك التي يستخدمها العربي وهو لم يساهم في صناعتها، إنه مستهلك لها، وهي بالتالي مستهلكة له، وهو يعتقد واهما العكس.
الغريب والذي يجعل من فكرة “المؤامرة” قائمة ومن أسباب المشكلة، إن لم تكن سببها الرئيسي!، حتى لو صار البعض يراها خدعة ولا وجود واقعي لها-رغم أنها –أي المؤامرة- قائمة بين الشعوب منذ ألوف السنين، الغريب هو أن خلو هذا المشهد مما ذكرناه سابقا، قابله صعود صاروخي لنجوم جماهيريين من نوع آخر، يخاطبون الناس أيضا، ويتوجهون لهم بما استطاعوا إليه سبيلا، ولكن بماذا؟.
منذ عدة أيام تداول الناشطون صورة للداعية عمرو خالد –أحد أشهر المخادعين والآكلين في الدين” وهو يُمثل أمام الكاميرا، وضعية صورته الرقمية، التي سُتلتقط له وكأنها صدفة، الرجل قام حرفيا بصناعة تمثيلية أو “بروفا” لصورة الإيمان والتقى والورع، التي يريد أن يظهر بها أمام جمهوره، فهذه الصورة التي يظهر بها هذا “الداعية”، هي التي تملأ جيوبه بالدولارات!، وما هذا “الآفة” إلا واحداً من عدد كبير من “رجال الدين المزيفين الذين ظهروا كالفطور غير المرغوبة في مجتمعاتنا، وجرى ما جرى من بلاء في عموم الدول العربية.
لكن السؤال الذي يقدم نفسه هنا: هل بمحض الصدفة اختفى هكذا من كانوا ينيرون العقول بالعلم والحكمة والأدب في المجتمعات العربية؟ هل هي صدفة وقعت هكذا، فوقع الفراغ، وصارت الساحة فارغة لشيوخ الفتنة ودعاة التكفير؟ أم أن ثمة من خطط ونفذ وعلى مدار عقود طويلة لما نراه اليوم، من خراب يحل بهذه البقعة من العالم، ظاهره –أي الخراب-باسم الدين أما باطنه فمعروف منذ آلاف السنين ما هو! بالتأكيد ليس صدفة، حتى أن القتل كان من الوسائل المتبعة في هذا الفعل الشائن والخطير، ونذكر من الذين وقع عليهم الاغتيال من أهل الفكر والعقل:الكاتب فرج فودة، الكاتب والمؤرخ جمال حمدان الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، والجزائري مولود فرعون”، ولم يسلم الأديب نجيب محفوظ من هذه المحاولات إلا أن القدر أنقذه.
هذا الغياب الحاد لمن كانوا يوما، صُناع الفكر والرأي والأدب، ترك أثره المدمر في منطقتنا العربية، للدرجة التي صار فيها ظهور “مفكر” مزعوم، مرتهنا برضا الدولار والصهاينة عنه عزمي بشارة على سبيل المثال لا الحصر، لذا هي المؤامرة، وعلينا الرجوع إلى مفاعيلها وكيف تمت، إذا أردنا التعافي من هذا الشر أولا.
تمّام علي بركات