أيلول وحيدا في سوق الفصول

على غير ما جرت عليه العادة، وعلى عكس ما هو متوقع في كل عام، رجع شهر أيلول وصار بمنتصفه وسينتهي، ولم نقرأ بعد إلا ما ندر جدا عنه، عن مفاتنه وكآبته الكابية، عن العشاق الراحلين فيه مع الزوال الأحمر بينما ظلالهم ترتسم على الدروب، وفي الفضاء الكثير من اللقالق، تحلق فاردة أجنحتها، قبل أن تقوم باستعراض بهلواني أخير يخلب الأنظار، حيث تقوم بعدة دورات محلقة في السماء، وكأنها جميعها تقول وداعا بلغة واحدة، لم نعد نقرا نصوصا عن الحب العاطل عن الأمل–بغض النظر عن جودتها-، والسنين المأسوف بحرقة القلب على مرورها هباء، هذا لم يتم الحديث عنه بالنسبة لفصل الخريف هذا العام، سواء من على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام، والتي كانت تضج به محتفية بالأغنية الشهيرة التي يعلو صوتها بين أيامه، والتي صارت من مقتنياته الخاصة “ورقو الأصفر شهر أيلول” باعتبار أن أغنية “بعدو أليف، بعدك ظريف، بعدو بيعنيلك متل الخريف” لم يحن أوانها بعد لتدخل في الوجدان الجمعي العربي عموما،كسابقاتها من أغاني السيدة فيروز وربما لا تفعل!، أو من المقالات والقصائد التي تُنشر في الجرائد والمجلات، لا المحلية فقط، بل العربية وحتى العالمية، -في أمستردام وباريس وكندا وأمريكا العديد من المقاهي الراقية تفتتح صباح زبائنها بصوت فيروز، “بيت صغير بكندا” أو “شو بخاف دق عليك مالاقيك”-، مقالات كانت تفيض بروح أيلول، وقصائد كانت ترتمي على أبوابه ليسمع آهات صورها الشعرية، نثرات بكت حتى جف حبرها بين أكمامه طويلا، ورسائل مكتظة بالحنين المختبئ خلف كل حرف، طبعا كل حسب رؤيته لهذا الشهر وما يعني وجدانه منه،كما أن الأغنية الخاصة به”رجع أيلول” التي كانت تفتتح صباحات الناس هنا، لم نعد نسمعها إلا نادرا، إن كان في السرافيس أو السيارات العمومية والحافلات الداخلية، حتى المحال التجارية التي كانت تفتح أبوابها باكرا في العاصمة السورية على اللحن الشهير للأغنية المذكورة، صارت تضع تلك الموسيقى التي بلا قلب، والتي يتم وضعها عادة للمجيب الآلي، اللهم عدا عن كم قليل من الدكاكين العتيقة حتى بأصحابها، -هؤلاء لم يزالوا على ما تبثه إذاعة دمشق من أغاني فيروز صباحا، وهذا صار بحكم العادة أيضا-،وإن سمعناها لم تنتبه لها، وإن انتبهنا لم نطل البقاء عند “كوبليهات” الأغنية كلها كما كنا نفعل سابقا، حيث كنا لا نهبط من وسيلة نقل تضع الأغنية، حتى تنتهي، ولو انتهى بنا الأمر للنزول في محطة بعيدة، لا نريد النزول فيها، الآن يكفي أن يسمع أحدنا المقدمة الموسيقية، حتى يتشاغل عنها بأي شيء، فالقلوب معطوبة ولا ينقصها ما يزيد في ثقلها على حاملها، فصل الخريف وأيلوله الهادئ لم يعد هو من يشغل بالنا الآن، إننا مشغولون بفصول أخرى، فصول غير واضحة المعالم والهوية، وبلا حتى أي دلالات عليها، إلا المزيد من العزلة والانكماش على الذات، ولكن ما القصة ولماذا هذا التغيير المفاجئ والغريب في مزاج السوريين، في أمر يعتبر من كلاسيكياتهم عموما؟ فقد كان من الطبيعي بل ومن الشائع والمألوف، أن تفيض مشاعرهم فيه،ويعبرون بالكتابة عنها بكل عذوبة  وبساطة، والبعض كان يميل للتعقيد أكثر من اللازم، لكنه كان يشارك في الاحتفالية “الأيلولية” المعتادة، بقصيدة تمت كتابتها لأجيال قادمة، فلم يفهمها جمهور الآن-على ذمة أحد الشعراء-، حتى هذه اختفت، ولم يتبق من هذه المظاهر “الكرنفالية” أيضا بهذا الشهر، شهر الكروم والينابيع، شهر النبيذ المشغول بقطرات القلب ومائه، إلا النادر، حتى المقاهي التي كانت تتزين بتلك الأغنية الكلاسيكية الشهيرة كعامل جذب مؤكد للرواد، غيرت عاداتها كما تغيرت ديكوراتها وروادها وروحها، فلم يعد الخريف فصل العشاق والمحبين الأقرب للروح المائلة عندنا بطبعها نحو الحداء، ربما بسبب طبيعتنا المشرقية، القائمة على الجنائزية، والتي تكون الكآبة والحزن من مصادر جلد الذات فيها، أو التطهير الذاتي، بحيث نستعذب “ساديتنا” الشخصية على أنفسنا، كما أن صوت فيروز لم يعد يستدعي من الذاكرة، تلك الأغنية بكل ما فيها من أجواء ألفة وحميمية، حتى وهي تغنيها،في الوقت الذي كنا فيه، نشم نسائم  أيلول ونضوج العنب والتين، في صوت “أم زياد” حتى ولو غنت “تعا ولا تجي وكذب علييّ”.
أيلول جاء على موعده ، لم يتأخر، لم يلته على الطريق، لم يتشاغل بتعرية صدر شجرة لعوب بعيدة، لكن الزمان تغير، واستقباله لم يعد احتفاليا ومبهرجا بقصائد وحروف متلألئة كما كان، بل صار يشبهه إلى حدٍّ بعيد وكأنه مرآته الكونية، استقباله صار كئيبا ووحيدا، كمثله، يشبهه، وكأنه شبحه، وهذا ينذر بسوء ألعن من كل السوء الذي مررنا، فنحن نستطيع أن نحزن قدر ما نشاء، وأن نغير أمزجتنا كما نريد، وأن نذهب للموت أو نعود منه، لكننا لا نستطيع أبدا أن نغير تكويننا الروحي، ومن مفردات هذا التكوين الروحي، حبنا العارم لأيلول وما يعنيه.
إنها الحرب، السبب الحقيقي لهذا التغيير المفاجئ كما قلنا في أمزجة السوريين، فبعد سبع سنوات من الآلام الشداد والفراق والفقر والقهر والعذاب والويلات الأخرى التي تصنعها النار والبارود، لم يعد الحنين بمفرداته التي كنا نستحضرها من روح شهر أيلول في التاريخ، لم يعد مغريا ولا حتى قادرا على قلب الموجة التي تتردد بين الصدور لأغانٍ جنائزية، كانت مدفونة في بئر عميق، وها هي تعود لتطفو فوق الأنفاس وكأنها قدرها المحتوم.
ويحك أيتها الحرب، متى ستضبين “بقجتك” وترحلين؟، وقبل أن تفعلي هذا، لا تنسي أن تعيدي لنا حنيننا المهدور على عتباتك، أعيدي أغانينا وكآبتنا التي هدرتِ كرامتها في أرواحنا، أرجعينا فقط كما كنا، وسنسامحك بكل تلك السنين، التي سفحتِ فيها دم الأغاني والذكريات وبكل برودة قلب فوق عتبات أرواحنا أيضا.
تمّام علي بركات