ثقافة

غرفـــــة القلـــــــق

منذ الزمن البعيد الموغل في حياتي, وأنا أسوق قطعان الخيبة أمامي خيبة, خيبة, كخراف مبتلة وجائعة, تحرن ويصعب على عصاي أن تنهرها عن ماء آسن تغذُّ السير إليه, هكذا أنا في ضياع مكان حنون أنتمي إليه, أسمّي كل متسع, وكل حيز مكاني, وأظلّ في قراراتي أحنُّ إلى عالم صغير يخصني, أكتب فيه قصصاً وأرسم وأغنّي إليه, وفي كل مرة أفرح, دون أن أفقده في غفلة مني, أو في خدر من عواطفي التي قد تتخشّب وتقسو, إذ كما قلت هو لي أنا فقط, فما من مزاود يتبارى معي ليكسب ودّه مني, وما من أحد سيعلم كيف أدلل هذا المكان وكيف أنزاح إليه كانزياح لغوي, يحقق من كلمات قطعة أدبية, تقرأ بشغف ويصفُق لها. لأنها لاتذهب إلى الكلمة بعينها وذاتها, بل تنطلق إلى روحها وفضائها, إلى ما يمكن أن يُبنى عليه ويؤوّل تأويلات كثيرة, على أن يكون الأجمل هو الأصح, وهو الحقيقة المضمرة في داخلي كشخص مبتلٍ بهزائم الآخرين وفي منأى عن انتصاراتهم, وغنائمهم, لهذا أرى نفسي مشلوحة, كغصن مهمل عن الآخرين, إذا شبّهتهم بالشجرة وتشبيهي لهم بالشجرة لا لأنهم يحملون بعض صفاتها, الظل, الرطوبة, إيواء العصافير, وستر العشاق, والأوكسجين, وأشياء أخرى, وإن كنت قد شبهتهم بالشجرة فقط, لأني تشبّهت بغصن منسي.
في بحثي عن ملاذي الطارئ, كانت الغرفة هي  أكثر ما يمكن أن استحوذ عليه في رحلة طويلة وستطول, وكلما انتقلت من إحداها إلى أخرى, أترك شيئاً مني, هي الجدران وحدها تختزن ذكرياتى, معها أبني عالمي الصغير الذي كنت ومازلت أحن وأطمح إليه, كنت ومازلت أعلق على جدار أية غرفة أسكنها, أعلق صوراً لذكريات منسية, أو لذكريات لا تزول.
أنا وهاني الراهب بعدسة صبية (قامشلاوية), أنا وكمال الشناوي بعدسة الزميل:(يوسف بدوي) . أنا وياس خضر. بعدسة: (مجدي دبوس), أنا ومريم شقير أبو جودة الخ.
أعلق على الجدران التي كثيراً ما أتوهم أنها ستكون لي, قصاصات وقصائد…, وحوارات لأناس أحبهم وتعجبني حواراتهم، وصور لوحات لفنانين من بلدي ولوحاتي, هكذا الجأ إلى تلك الجدران , جدران الوهم والخيبة, ربما هي الوحيدة التي تخفف من قسوة العزلة وقهر الوحدة, لذلك يُعيب عليّ بعض الناس مكوثي الطويل في الغرفة وحيداً- قبل الحرب القذرة- كان الكثير من أصدقائي يستأنسون بالغرف التي أسكنها وهم يبدؤون بعقد صداقة مع جدران غرفتي, فالفنان يرسم لوحة ثم يعلقها على الجدار, والشاعرة تكتب مقطع من قصيدة لها على الجدار, وهكذا كان للغرف حميميتها, هاجر بعض الصديقات والأصدقاء, ومابقي منهم أخذته مشاغل الحياة عني وعن جدران غرفتي، عدد كبير من الصديقات والأصدقاء مروا بهذه الغرفة وتركوا رائحة ذكرياتهم الحزينة, معلقة بكل هدوء على الجدران. والداخل لابدّ سيشعر بكل الذين عبروا أمامه ولمسوا شيئاُ ما, أو ضحكوا, أو بكوا, وما أكثرهم هؤلاء الذين يرون أرواحهم قريبة من أرواح الغرفة فيبكون بحرقة على فقد بعيد أو ضياع أمل يتلاشى, أو عمر يسرع, أو أيام تمارس الخيانة ضدنا, كامرأة نحبها ولكنها لاتحبنا, أو عشيقة تكتشف خيانتنا لها مع امرأة أخرى. هكذا هي حياتي من غرفة إلى غرفة, فما من “أشياء أملكها لتملكني” كما قال محمود درويش. في إحدى الغرف نسيت شريط كاسيت فيه صوت المرحومة أمي, وفي أخرى جواز سفري المنتهية صلاحيته, وفي إحدى الغرف استولى صاحب الغرفة على أرشيفي ومشروع سيناريو فيلم, وآلة تسجيل مع راديو, وكاميرا تستخدم لمرة واحدة..  فعل ذلك لأني لم أسدد له أجار الغرفة.
يا لسوء طالعي مع مسلسل “قلق الغرف” التي ليست لي ولن تكون منذ عدة أيام سكنت غرفة بائسة وقلت لن أرسم ولن أكتب على جدرانها أي شيء, لكن (ميم) التي أحبت أن تتعرف على غرفتي الجديدة, وبينما أنا أعد القهوة لي ولها فاجأتني أنها بدأت تغسل أصابعها بخليط من الألوان, وبدأت برشق ألوانها على بياض اللوحة, وضعت الأحمر الداكن فوق يقين الأسود, ودون أن تقصد ربما, لم تترك للبياض نافذته التي تمنح بعضا من الأمل, لم أجد للأصفر الذي كانت تحبه أي مكان, الأصفر الذي كان ومازال يذكرّني بأول قصة حب زمن البراءة الأولى, وهكذا انتهت (ميم) من رسم لوحتها المدججة بالسواد جدران الغرف التي ليست لي ولن تكون, بلوحة مدججة بالسواد, لا تحتاج إلى إطار أسود, ولا إلى جدران, ولا إلى كائنات مفرطة بالعزلة, ومضت إلى رصيف آخر دون أن توّقع اللوحة, على جدران الغرف المستعارة, ومضت بغموض, دون أن توقع لوحتها, دون أن تلقي عليّ تحية الوداع. هكذا مضت (ميم) غير آبهة بإثم لم تقصد ارتكابه. ولم توّقع لوحتها, ولم تشرب فنجان قهوتها؟!.
أحمد عساف