ثقافة

تلك الكتب.. تلك الحيوات الجميلة

أحمد علي هلال

بنبرة حزينة سمعتها من كثيرين ظلت مكتباتهم وراءهم ينعونها ويتحسرون عليها، إذ ليس الأمر ببساطة ما بعينها حتى تُستعاد تلك الكنوز أو قل الثروات، التي أنفق أصحابها أعمارهم ليظفروا بها، في زمن لم تعد ترى فيه كتابك المفضل وفي المكتبة ذاتها، التي ربما تغيرت وأصبحت محلاً للألعاب أو مطعماً فارهاً يستقطب زبائنه الشغوفين بكل جديد.

مكتبات حُرقت ودمرت ونهبت، من شأنها أن تعيدنا إلى ماضٍ استهدفت به من قبل ظلاميين أخافتهم الكتب، بما احتوته من أفكار وتنوير وثقافة ملونة، لكننا اليوم نقف على مسافة من تلك المآسي على تشظيها وعلى محاولات كثيرين الذهاب بحثاً عن مجرد كتاب كانوا يمتلكونه في مكتبات الأرصفة.

الأمر هنا يحيلنا إلى ما استبقته الذاكرة من تلك الكتب حينما تشبعت منها قراءةً، وظلت ركائز تعين بالرجوع إليها، على الرغم من أن مكتبات كثيرة ودور نشر توقفت ولم تعد طبع تلك الكتب، فيما امتلأت المكتبات بما يلبي لحظتنا المتسارعة إلى الاستهلاك، وما خلا ذلك قليل في الروايات الناشئة ودواوين الشعر وما أكثرها، والأبحاث على ندرتها.

إذن لعل الأمر برمته سيأخذنا كذلك إلى ما يجري من وقائع عصف لهذه الذاكرة، وبما اختزنته من الصور والكلمات والأشياء، والأدل بما توجهت به من حيوات طازجة ظلت ترافقنا أبداً في حلنا وترحالنا، وكيف نعيدها لترتشف معنا قهوة الصباح، وتشاركنا وسائد النوم، وحرير الكلام.

قالوا: الكتب خزائن المعرفة، وفي ذلك القول ما يستدعي أزمنة جميلة كان الكتاب هو الهدية الكبرى لصديق أو قارئ بعينه، وكم أُهديتْ كتباً كما لو أنك تهدي أعماراً باهية ليستمر بها القراء، ويمكن للذاكرة أن تتندر الآن بعناوين كثيفة مرت، بل لأسماء مبدعين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس ردحاً من الزمن، وكيف تستعيدهم الآن الذاكرة بقوام ما كتبوا، وليس باجتزاءات السياقات التي كثيراً ما يلتبس بها المعنى.

ذلك الزمن الحميم الذي اعتبرنا فيه الكتاب بوصفه كائناً لغوياً، كائناً من لحم ودم يتنفسنا ونتنفسه، تغيب قليلاً أمام بدائله الهشة الجامدة بلا روح أو خفقة جمال.

تماماً لو أنك تستعيد أزمنة وأمكنة بأكملها، لكن ما شأن الذاكرة حينما تصطفي وتحذف، وصولاً إلى هندسة الكلام، وموسقة الممكن منه، لأنه قد يقول لك قائل –وهو محق- بأن زمننا هذا هو زمن الكثافة والتسارع، وفي ذلك القول ما يستبطن قول شاعر: «للأوقات اشراقات أسرع من ركضها»، ولغيره أن يتساءل في ذات السياق: الذاكرة المكتنزة أبداً، هي المضادة لاجتزاء ثقافة العناوين العابرة، ولطالما أن -هذه الذاكرة- تتعرض كل يوم ودقيقة، لحرب وما أفدحها، فكيف ننجو بها أذن، ليظل إبداعنا متسقاً إلى حد ما، ويظل صورتنا الأخيرة إلى حد كبير، وفي ذروة هذه الأسئلة وسواها، علينا أن نسائل ما استبقته تلك الحيوات/ المدونات الكبرى والصغرى والوسيطة وما بينها من أثر يدل علينا، ولعله الأثر الثقافي الذي يشكل مرجعيات العقول والنفوس والكلمات، لنلون وقائعنا الجديدة بما هو مشتهى وما هو محلوم به، ليس ترميماً لفقدان وما أفدحه، وليس مواساة لذوات قلقة تبحث عن المعنى فحسب، بل لأن ثمة ذاكرة جمعية تتشكل مع تفاوت أدائها الفردي، لتبوح بأزمنتها المستعادة وتجهر بما هو أشد حساسية فيها، تلك الذاكرة بوصفها مركباً ذهبياً، قادراً على أن يخلّق من اللحظة معنى، وإذا كان ثمة من يذهب إلى تعبير أثير هو الذاكرة المثخنة، فما يعادل ذلك هو الذاكرة المفتوحة أبداً على كل إبداع ناجز.