ثقافة

“الصدى والنسيان”.. الحرب وانعكاساتها الحياتية

رواية “ورددت الجبال صداها”هي العمل الثالث للروائي الأمريكي من أصل أفغاني “خالد حسيني”، والقارئ لن يحتاج الكثير من الوقت ليصبح جزءاً من الصدى الذي تضج به الرواية، فالحياة لم تمنحنا هذا الصدى من دون مقابل ستأخذ منك أشياء كثيرة وستعطي أكثر، وليس بالضرورة أن تكون جيدة وعلى مقاسانا وربما لن تعطيك شيئاً.
تبدأ الرواية بقصة خرافية تتحدث عن الغيلان والعفاريت وعن “بابا أيوب” رب الأسرة البار وصاحب الهمة العالية، الذي يسعى جاهداً لإعطاء عائلته ما تحتاج، الأب العطوف والحنون لأولاد خمسة، ودائماً وكما العادة تهب رياح الشدة فيهاجم القرية غول مخيف ويطلب أحداً من أبنائه وإذا رفض سيقتل العائلة كلها، فيحتار الأب وزوجته وفي النهاية يقرر أن يضع أسماء أبنائه في أوراق ويختار بالقرعة اسم واحد منهم، وتلخص الدهشة واصفرار وجهه أنه قد اختار “قيس”أصغر أبنائه وأحبهم إلى قلبه، يأخذ الغول الطفل ولا يستطيع الأب تقبل الواقع يؤنبه ضميره فيسعى لمطاردة الغول، ويعثر على مكانه، ويحاوره ويتبين للأب أن “قيس” لم يأكله الغول، ولم يلحق به الأذى، وسمح الغول لبابا أيوب برؤيته فيجده برفقة أطفال آخرين، من خلف زجاج لا يسمح بسماعهم ولا هم يسمعونه، فيضعه الغول في موقف الخيار المسؤول هل تتركه نعده للمستقبل أم تأخذه للضياع والنسيان؟ فقرر العودة يائساً فهو لا يمتلك إلا هذا الخيار مع بلسم النسيان.
هذه الحكاية الخرافية التي لا تخلو من رمزية عميقة عبرت عن مشاعر قوية ونحن ما زلنا في البداية، فللقارئ تخيل ما يمكن أن ترسمه تسعة فصول من الرواية من مشاعر على وجهك، تحفر في قلبك مستنجدة بضميرك ليحكم في المواقف التي سيضع صاحب “عداء الطائرة الورقية” شخوصه مزعزعة فيك كل معتقداتك، فالحياة والإنسانية على كل بساطتها معقدة بما تحمله من ألغاز تستجدي حلها سبر أغوار البشر.
جاء هذا الكتاب أكبر من سابقيه فحسيني هنا كان الساحر الذي يلتقطك ويذهب بك من مكان إلى آخر بكلمات قوية ومؤثرة، بجمل تحمل من الإحساس ما اعتدنا عليه منه بل ومكثفة أكثر، يترك لك حرية البكاء بصمت، يحمل الكتاب بين طياته أسلوباً عالياً في وصف الشخصيات المتعددة على عكس الروايتين السابقتين التي اعتمد فيهما على شخصية أساسية تدور في جوانبها فضاءات الرواية، نتنقل بين عدة بلدان فصاحب “ألف شمس مشرقة” يتجاوز حدود بلاده أفغانستان فيذهب بنا إلى أمريكا وفرنسا واليونان، تمتد أحداث الرواية بين عامي 1952 إلى 2010 تبدأ من حكاية ما قبل النوم التي تحمل شيئاً مشتركاً بين شخوص الحكاية كلها وهي القرار الذي سيتخذه كل شخص، وكيف سيؤثر على حياته وكيف ستعطيه الحياة ترياق النسيان ليستطيع أن يتعايش وأيامه، بعد هذه الحكاية التي يرويها صبور لولديه حتى يناما لأنه في الصباح سيقوم الأب بمحاكاة الخرافة لتصبح واقعاً آخذاً طفلته الصغيرة “باري” ليبيعها إلى عائلة غنية في كابول، “باري” ذات الأعوام الثلاثة توفيت والدتها وهي تلدها فتزوج أبوها من “بروانة” التي كانت تحب صبور منذ صغرها لكنه كان يحب أختها الجميلة، كما كل الشبان الذين يرونها وفي لحظات الغيرة التي تسكن قلب بروانة تدفع أختها “معصومة” من أعلى الشجرة لتقع وتصبح عاجزة عن الحركة فتشعر بارونة بتأنيب الضمير، مما دفعها إلى تكريس نفسها بعد الزواج من صبور لأن تهتم بأختها إلى أن يأتي يوم وتطلب “معصومة” أن تأخذها إلى الجبال وتتركها هناك، و”عبد الله” الأخ صاحب الأعوام العشرة أحب باري كأنها ابنته دللها ورباها كان يجمع لها ريش ملونة من الطيور، لدرجة أنه باع حذاءه الوحيد من أجل أن يشتري الريش لرسم ابتسامة على وجه أخته، ويحتفظ بها في صندوق صغير سيظل مرافقاً لعبد الله إلى أن تجده باري كاشفاً عن مدى الحب والحزن الذي حمله الأخ خلال أيام حياته التي لم يعرف فيها شيئاً عن مدللته الصغيرة، “نبي” أخ بروانة السائق والطباخ الذي يعمل عند الأسرة الغنية في كابول صاحب فكرة بيع باري، والذي دفع صبور إلى اتخاذ هذه الخطوة الكبيرة ليرضي سيدته “نيلا” التي كان يعشقها في السر ليرضي رغبتها في الشعور بالأمومة التي كانت محرومة منها، “نيلا” شخصية نسائية يقدمها الكاتب في وسط ارستقراطي كانت شاعرة ومتمردة معتمدة على نصفها الفرنسي، حاولت على قدر ما استطاعت أن تأخذ حريتها متجاوزة الكثير من الحدود التي كان يفرضها المجتمع الأفغاني وخاصة بعد زواجها من “سليمان وحدتي” الذي جعلها حزينة أكثر وغير راضية عن متابعة العيش وخاصة بعد مرضه، فتسافر إلى باريس مع باري وتتركه في عهدة “نبي” وقبل أن تخرج تخبره بأنه هو السبب الرئيس في فشل زواجها، “السائق” هو الشخصية المحركة للأحداث بشكل مباشر وغير مباشر، يكتشف مغزى العبارة ليفاجأ بحب وحدتي له، وبالرسوم التي كان هو موضوعاً لها تاركاً على فراش الموت وصية يترك فيها البيت والممتلكات لتنتقل له.
يستقبل الدكتور ماركوس فارفاريس، جراح التجميل اليوناني مجاناً في بيته امتناناً لتطوعه لعلاج مشوّهي الحرب التي طغت على كل مناحي الحياة في أفغانستان، مع الإشارة أن الرواية بمجملها تشير إلى مفرزات هذه الحرب القذرة وتحديداً الجانب الاجتماعي منها، فهي تكاد لا ترى اثنين دون أن تفرقهما. تتداخل أحداث كثيرة وتفاصيل عديدة ترسم وقائع ما حدث لكل منها، ليضعنا آخر فصل عند “عبد الله” الذي استنزف قواه وذاكرته في البحث عن الضائعة ومحاولة إبقائها حية في قلبه وفي قلب عائلته وخاصة طفلته التي أعطاها اسم “باري”، وتنتهي الرواية كما بدأت بجمل من قصة خرافية اعتادت أن ترددها هي وأخوها قبل النوم إلى جانبها صندوق ريشها الملونة، تتذكرها الأخت الضائعة التي وجدت أخاها الذي كان قد نسي كل شيء، فالحياة يبدو أنها من جديد قد أعطت ترياقها السحري مواصلة لعبتها في النهايات غير المكتملة.
“وجدت جنية صغيرة حزينة/تحت ظل شجرة ورقية/تتابع باري بصوتها النعسان
أعرف جنية صغيرة حزينة /ذهبت بها الريح في الليل”.
علا أحمد