ثقافة

عن العمارة والموسيقى وفيروز وجنو ونطو

فن العمارة ليس فنا منفصلا عن ثقافة البلاد أو المناطق وطبيعتها الاجتماعية والفكرية وحتى الأيديولوجية التي يحيا ويكبر ضمنها، والحال إن الوعي الباطني للإنسان قبل أن يكون لدينا مهندسون ومعماريون لديهم أفكاراً معمارية من طرز باذخة تقلد الغرب في كل ما يفعل –حتى أن واحدة من المدن العربية، تكلفت ملايين الدولارات على متحف أسمته “اللوفر” وربما يعرض للأسلحة التي احتلت فيها فرنسا بلاد المنطقة ومنها سورية، عدا عن تقليدها لكل بناء ذائع الصيت في الغرب-، إلا أننا إن تمعنا النظر في مُعظم الطُرز المعمارية العربية الكلاسيكية القديمة الخاصّة بالقصور ودور العبادة، فسنلاحظ أن المدخل كان عبارة عن باب يؤدي إلى ممر مظلم ضيّق يخرج أو يدخل منه المرء إلى باحة واسعة رحبة منارة بأشعة الشمس، وكأن المعماريين القدماء كانوا يصورون عملية الولادة من خلال مبانيهم، حيث خروج _أو دخول_ الإنسان من الرحم المُظلم الضيق إلى العالم الواسع والرحب، هو بمثابة المرور في ذلك الممشى الضيق قبل الوصول إلى الانفتاح على عوالم مدهشة في هذا النظام المعماري الفريد، والذي كان سمة البناء العربي الكلاسيكي في مختلف العصور، وكان هذا تكنيكا معماريا نفسيا بحتا حيث كان المرء قديماً يشعر بالانقباض للحظات خلال عبوره الممر الضيق عند دخوله أحد القصور أو دور العبادة، قبل أن يغمره نور الباحة الواسعة فيشعر بالسعادة والخلاص وكأنه قد تخلص من عبء ما، فتنفرج أساريره وكأنه فعلا وُلِد من جديد.
وكتشبيه أو كمثال ربما يقرب الصورة التي تجعل من الفن المعماري متأثرا بالحالة العمرانية كما تأثرت هي فيه، يمكننا أن نجد في أغنية “الوداع” التي صدرت في ألبوم “كيفك أنت”عام 1991، حيث غنّت السيّدة “فيروز” القسم الأوّل الذي يتقيض له الصدور من الأُغنية، وهو الذي يتحدث عن الوداع والفراق وما إلى ذلك، بكل ما يحمله هذا من حزن حقيقي، ويمكن اعتبار هذا المقطع بمثابة الممر الضيق في الأبنية القديمة، حيث جعلنا سماعه غير مرتاحين نهائياً حين نسمع السيدة “فيروز” تشدو: (أنا صار لازم ودعكم)قبل أن تخرج بنا الموسيقا التي وضعها “زياد الرحباني” للأغنية، من الممر إلى الباحة الواسعة في المقطع الثاني حين يتغير الإيقاع وتشدو “فيروز” (بكرة برجع بوقف معكن، إذا مش بُكرة ال بعده أكيد)ليُشكل هذا المقطع خروجا من الرحم المظلم في اللحن ودخولا في النور، فتنفرج الأسارير وتزول مرارة المقطع الوداع.
بالمقابل إذا قارنا أغنية أمريكية مثلا ل “مادونا” أو “مايكل جاكسون” بالعمارة الأمريكية مثلا، فسنجد أن تلك الأغاني تشبه ذاك البناء من الحالة الفنية والبعد النفسي لها، إنها الأغنية الخارقة، الآخذة أسهمها بالعلو، وأداء مغنيها المرتفع والغاضب -بغض النظر عما يغني- يشبه إلى حد بعيد ناطحات السحاب المتكبرة والتي تعلو أكثر فأكثر وكأنها تريد أن تصل السماء، ولربما عبرت العديد من الأغاني الأمريكية لفنانين مثل “بوب ديلان” أو “جورج مايكل” عن أدراج منصوبة نحو السماء، يصعد عليها المغني إما مع عشيقته التي بيدها مفتاح السماء، أو لوحده وهو يطرق أبواب المجد الذي يتوهمه.
يصح هذا المثال أيضا عن ارتباط الغناء بفن العمارة، بالشكل السائد الآن من العمارة في بلدنا، فعدا عن نظام البناء الفرنسي الذي أقامته فرنسا في فترة احتلالها لسورية-ويمكن للمهتم أن يرى أن نظام الثلاث طبقات، يشبه الأغنية الفرنسية من حيث كلاسيكيته ورتمه الهادئ-، والبناء السوري الحديث بمعظمه هو تلك الكوارث الإنسانية المسماة زورا وبهتانا “منازل” صالحة للسكن–أتكلم عن الناس الفقراء الذين أنا منهم لا عن غيرهم-، كما في العشوائيات التي يبدو وكأنها تعود للقرون الوسطى، فبماذا ستتقاطع أغنية مثل “جنو نطو نطو جنو” مع بناء متحف مثلا؟ بالتأكيد ستتقاطع مع بيت مبني كيفما اتفق في مكان ليس صالحا للبناء، وحيث الحيط على الحيط، والنافذة أو الشرفة في حال وجودها على الشرفة، والأرصفة كأنها مقام موسيقي منسي غير موجود، وبما أن هذا النوع من العمارة في الظاهر هو مخالفة وطنية، لكن هذه العشوائيات هي الأكثر انتشارا في سورية حول المدن والمحافظات.
وربما يقول البعض ولكن هذه ال-“جنو نطو” ومثيلاتها ظهرت منذ مدة بعد قيام تلك الأحزمة الفقيرة وهي تلتف حول المدينة وكأنها تحميها من البرد والعدو، نقول لهم ماذا عن “ناطرة تحت البوابة” أو “سكروا علي الباب منعوني أشوفك” أو “هاجر فوق الرعوشي” أو “كفك يا جميل” أو “غاوي أنا غاوي” وغيرها من الأغاني التي يشعر السوريون أنها لا تعنيهم، والعشوائيات التي تتخبط فيها كلمات تلك الأغاني وغيرها، هي ذاتها العشوائيات التي يتخبط فيها السوريون الذين يعيشون فيها منذ عشرات السنين، خصوصا وأن فصل الشتاء قادم، وسيصبح الغناء موحلا أكثر فأكثر، كما هي الطرق في تلك المناطق التي تسدّ شبابيك القلب، باللون الرمادي الذي يسطير عليها، وبالتعاسة الخارجة من كل بيت.
لا يمكن فصل الفنون عن بعضها، وتراجع أحدها بالتأكيد سيؤثر على الآخر، وها نحن نرى بأم أعيننا التراجع بل السقوط المدوي للعديد من الفنون في البلاد العربية –مصر مثلا من أم كلثوم إلى نجلاء والحصان” ولبنان من “بيتي أنا ما بعير مفتاحو” إلى “بحب الموز”!.
طبعا نحن تناولنا الموضوع بشيء من السخرية المؤلمة على اعتبار أن موضوعا كهذا هو بحاجة إلى دراسة قد لا تنتهي بعدة أشهر،”فن العمارة والموسيقى” إلا أن فتح هذا الموضوع يجب أن يكون ولو من باب الحرص على الذائقة العامة للناس، وهذه بالتأكيد مسؤولية الدولة في كل بلد، فلا يترك مجال خطير كهذا –الفن-لكل من هب ودب.
قال “غوته” 1749-1832:(العمارة هي موسيقى جامدة) أول انطباع من قراءة مقولة غوته هذه أن الموسيقى والهندسة المعمارية ينتميان لأصل واحد، أو كما يقال(وجهان لمادة واحدة) ولا ندري في حين رأى “غوته” “عشوائياتنا” التي حارت فيها طامحات العقول، ترى ماذا كان سيقول؟.
تمّام علي بركات