ثقافة

وفــــــاء وجـــــدوى!

نرى في مساراتنا المتنوّعة، ونشهد في محطاتنا المعتادة والعارضة، كثيراً من الملامح المخلّة، والتصرّفات الشائنة.. منّا من يسكت، أو يتغافل، أو يتصامم، أو يتشاغل عن ذلك؛ فيما يكون إحساسك بها مختلفاً، وتستشعر ضررها، وتعاين أذاها، وتتكهّن بتبعاتها،على المستويين: الخاصّ والعام، فتقرّر مواجهتها بجرأة وثقة؛ فتسلك سلوكاً مغايراً، وتقول كلاماً مفنّداً ومندّداً في لقاءات واجتماعات وندوات، وتكتب؛ربّما تكتب مثل هذا الكلام؛ معبّراً عن هذه المواقف، وتنشره، حين تجد من يقبل بذلك، فتحسّ ببعض الرضا؛ أنّك قمت بواجبك، وفعلت ما يجب! ولكن.. هناك أكثر من سؤال، يبدأ بالتوارد، ولا تكاد الأسئلة تنتهي: من يسمع، إذا حكيت؟! ومن يقتنع، إذا سمع؟! ومن يتصرّف، إذا ما اقتنع؟! وكيف يتصرّف؟! ومتى؟! وأين؟!
وتتوالى أسئلة أخرى:
من يقرأ ما تكتب؟! ومن ينقل فحواه إلى حيث يجب أن يصل؟! ومن يتابعه، إذا ما وصل؟! ومن يأمر بالمعالجة؟! ومن يتحقّق من الوصول إلى المأمول؟!
للأسف.. كثير من الكلام المناسب، يبقى خارج دائرة من يجب أن يسمع، أو من تقصده، وقد لا يكون المقصود الشخصَ العاديّ الذي ننتقده، أو المسؤولَ الذي ليس بيده الحلّ -من دون إخلاء أحد من المسؤوليّة- هو الذي يرى -وترى ربّما- أنّه، بمجرّد تلقّيه ما أرسلت قولاً أو كتابة، يكون قد أسدى إليك خدمة العمر، وأنت ممتنّ له؛
فلا التاجر الوالغ في جيوب الزبُن وصدورهم، يقرأ، أو يستمع، ولا الراشي والمرتشي معنيّان بالقراءة والاستماع إلى الانتقادات، ولا المسؤول في مكتبه متابع للشكاوى المتكاثرة، والتفاصيل المرهقة حولها؛ وتبقى مكافحة الفساد شعاراً استثماريّاً متّصلاً، أو قولاً -وإجراء- راهناً، أو وثيقةَ حسنِ سمعة، أو سوطاً مرفوعاً، أو تهمة جاهزة، رهنَ الاستحقاق والموقف والمقابل والصدى..
المسألة لديك، أنّك تكتب ملتاعاً، فيتأثّر بما كتبت، من هو مثلك. وقد تغتبط، أنّ هناك من سمعك، وينتشي أنّ هناك من عبّر عنه.. قد يحدث هذا، وماذا بعد؟! وقد يتكرّر حدوثه، فيصبح السؤال أقسى وأمرّ، ويصبح الواقع جواباً مُفحِماً بلا سؤال أو تساؤل!
إذا لم تكن آذان مفتوحة، وقرون استشعار مستنفرة، ورغبة وحرص على معرفة المشكلات وتفصيلاتها، والمتضرّرين منها، وترتيبها وفق أولويّات للدراسة والمعالجة؛ فالمشكلة باقية، وتتفاقم.
إذا لم تكن الكتابة الناقدة بلغة الفاعلين، وفي وجوههم، أو في وجه المسؤولين عنهم، فالكتابة خسارة!
صحيح أنّها نوع من نفثات ذاتيّة أو مجتمعيّة، أو تنفيس عن احتقان داخليّ وانفعال إنسانيّ، ترتاح بعده، أو تعود إلى التوازن المتوهّم؛ لأنّ شيئاً منك أو عنك، خرج إلى العلن، وسمعه آخرون، وتشاركت معهم سيرته ومنعكساته؛ إضافة إلى أنّها موقف مشرع للحاضر والتاريخ؛ تلك هي الحال مع الكتابة؛ أيّ كتابة؛  كما أجبت ذات مرّة أحد المثبِّطين المشكِّكين في الجدوى من هذا الفعل الحيويّ الإنسانيّ، منذ بدايات الخطو في هذا المضمار: إنّها دخان ملوّن، يخرج إلى الفضاء القريب، وليته يصل إلى البعيد؛ ليلفت نظر الرائين، أو الذين ما تزال لديهم حاسّة الشمّ فاعلة،إلى أنّ هناك احتراقاً بدرجة ما في مكان ما، وهذا الاحتراق متّصل منذ بداية تشكّل الوعي بالحياة! وربّما قبل ذلك، منذ الولادة، التي تبدأ ببكاء غير واعٍ، وفق وعينا العاقل؛ لذا تتواصل الكتابة عن كلّ ذلك، وإن تأخرتْ لظروف داخليّة وخارجيّة.. ويجب أن نستمرّ في الكتابة، ويستمرّ سوانا، ولن نتوقّف، ولن نتخاذل؛ وسنشير دوماً إلى ما لا يسرّ، ولا ينجِز، وما لا يسير على ما يرام.
أمر آخر يستدعي استمرار الكتابة، أو يتطلّبه، أو يعطيه قيمة وأهمّيّة؛ أنّ هنالك من يعاني، ولا يستطيع أن يعبّر عن مآسيه؛ بعداً، وعزلة، وعجزاً، وخوفاً، وظلماً… فتكون كتابتك وحديثك عمّا يمثّله، أو يقاربه، بعضاً من وفاء لإنسانيّة الإنسان، في هذا الشخص، أو هؤلاء الأشخاص، الذين قد لا تعرفهم، ونبلاً في وقوفك إلى جانبهم، وإسهاماً في إسماع الناس أنّاتهم، وإيصال مشكلاتهم إلى حيث يُفترض أن تصل؛ فيما أنت في الحقيقة، تقف إلى جانب نفسك وآرائك وقناعاتك ومواقفك…وقد تحسّ بذلك، أنّ لك حضوراً وظلّاً وفاعليّة؛ وأنّك لست بلا فائدة، وليست إحساساتك بلا جدوى!

غسّان كامل ونّوس