ثقافة

“حرائق”.. لغة سينمائية مختلفة لفيلم بُني على المفارقات القاسية

لم يقتصر فيلم حرائق في أحداثه على المحرقة السورية وإنما تناول قضية المرأة العربية بشكل عام والمرأة السورية بشكل خاص التي تحدت الحرب وصمدت رغم كل الأوضاع الصعبة التي أحاطت بها، ليقتحم بجرأة ملف قضية جرائم الشرف التي لم يجد لها القضاء حلاً وما زالت موجودة في مناطق في سورية. وفي منحى آخر عبّر الفيلم عن التلاحم الاجتماعي بتعاطف المهجرين والمنكوبين ومساندة المجتمع المدني، والدور الفعّال الذي قامت به الثقافة السورية في مواجهة الإرهاب والتوعية بحقيقة الأزمة، لتكون سينما السفراء محوراً أساسياً في الفيلم، وعلى دلالة اختيار الإرهابيين المركز الثقافي الروسي مكاناً للتفجير، لتشهد حارات دمشق وأزقتها وشوارعها أحداثاً وقعت في زمن واحد، الملفت أيضاً أن المخرج اقتنص لحظات رومانسية يعيشها الإنسان رغم الحرب.
كل هذه المحاور والمسارات المتوازية قدمها المخرج محمد عبد العزيز بلغة سينمائية مختلفة وبآلية متطورة تتفوق على فيلمه السابق”الرابعة بتوقيت الفردوس” معتمداً على الدمج والمزج بين المشاعر المضطربة من خوف وقلق وحبّ، وبين الخاص والعام الذي يدور بفلك الحرب السورية، ومن اللافت التقطيع والانتقالات المشهدية بين محاور قصص أربع نساء وتطورات حاسمة في حياتهن تحدث في زمن واحد هو الزمن الفعلي للفيلم وتعود خلفية الأحداث إلى الماضي.
بنى المخرج عبد العزيز فيلمه على أحداث حقيقية في تطرقه إلى المخطوفين لتكون الطفلة حنين سليم المخطوفة عام 2013، وتحررت منذ أربعة أشهر بعد أن قُتلت أمها وأختها على مرأى عينيها، فاختنقت دموعها بصوتها وهي توجه رسالة إلى أطفال سورية” أتمنى أن لايرى أحد من أطفال سورية ما عشته” محوراً بالفيلم، تلتقي قصة حنين مع حكاية الشابة زهرة عزو التي قُتلت جراء جريمة شرف رغم أنها بريئة تعرضت للخطف من قبل أحد المقربين من عائلتها، ورغم أنها تزوجت من ابن خالتها بشكل شرعي وقانوني. والحادثة التي تطرق إليها المخرج أيضاً هي تجنيد داعش للنساء، كما مرر هواجس الشباب بالهجرة كنوع من الهروب.
ورغم تكثيف الصورة السينمائية وتشعبها بين أربع حكايات إلا أن المخرج برع بالتحكم بالصورة وبالسياق الدرامي الذي شدّ المشاهد منذ اللحظة الأولى للفيلم حتى نهايته ولم يترك له فرصة للابتعاد عن مجريات الأحداث وتصاعدها، فبدأت المشاهد الأولى بصور متفرقة لأم وداد التي تشوي الديكة على النار في منطقة متطرفة من ريف دمشق قرب المدجنة التي تعيش منها مع عائلتها، لخولة التي أُفرج عنها وخرجت من السجن، إلى معسكر الإرهابيين الذين ينفذون حكم الإعدام بالمخطوفين، إلى ريم الشابة العاملة قي الصليب الأحمر لاستلام المخطوفين ومساعدتهم والتي تواجه مشكلة خاصة حينما تعلم بحملها من خطيبها، وأم علي التي ترتدي العباءة السوداء وتذهب لمصيرها المحتوم بالقتل.
وينتقل المخرج من قصة إلى أخرى بتصاعد متوازن بين الأحداث وبلقاءات خاطفة وحوارات تنقل بطريقة غير مباشرة انعكاسات الحرب من القذائف والخطف والقتل، وخلال هذه الأحداث يقحم المخرج مشاهد صغيرة تختزل الأزمة وتبيّن التعاطف الاجتماعي في مواجهة الحرب بإشارات صغيرة مثل الشاب المعاق الذي يعمل في السينما التي أصبحت ملجأ للمهجرين.

رسالة المرأة السورية
المنعطف الهام في الفيلم هو رسالة المرأة السورية التي تقاوم لتعيش حياة أفضل وأقل عنفاً كما كُتب على الشاشة في نهاية الفيلم، فغيّر من مجريات الأحداث لبعث روح الأمل وخلق عالم أفضل للنساء والجميع، فكان اختياره للنوافذ الصغيرة التي نظرت إليها كل بطلة من بطلاته تحمل رسالة، فينهي فيلمه بمشاهد تطرح أسئلة مازالت إجاباتها معلقة، وداد تنجح بالهرب مع صفوح ابن خالتها تتزوجه بالسينما وتأتي أمها مع الشرطة لنراها في المشهد الأخير تعود إلى حياتها الهادئة تشوي الديكة ويساعدها زوجها صفوح لتحرق مع النيران المشتعلة خارطة العالم إيماءة إلى أن الحياة البسيطة بالوطن أفضل من إغراءات الهجرة، وخولة تلتقي في إحدى حارات دمشق القديمة مع ابنها وتقدم له اللعبة وتمضي مع جميلة ليترك المخرج مصيرها معلقاً بين الحياة والموت وتبقى قضية جريمة الشرف واقعاً، ويبقى مصير ريم مجهولاً ليطرح تساؤلاً هل تستطيع الاحتفاظ بجنينها ومواجهة المجتمع بعد أن رفض خطيبها الاحتفاظ به بدوافع الحرب والتفكير بالهجرة، لتبقى الصورة الرائعة التي تحمل رسالة المرأة السورية بنبذ التطرف ومواجهة الإرهاب بالمشهد الذي تتباطأ فيه الصورة ويعلو صوت الموسيقا ويمر الأبرياء من نساء وأطفال ورجال أمام أم علي في اللحظة التي يطلب منها التكبير والضغط على الزر لتفجير نفسها وسط الجموع فترفض مقولات (أبو براء الداعشي)” ما بدك تشوفي علي وإبراهيم وزوجك بدوي بالجنة ” وتهرب إلى سطح بناء مهجور مازال قيد الإنشاء تتخلص من الحزام الناسف وتتحرر من قيود الإرهابيين ويتم التفجير ليقتل جماعة الإرهابيين وخلاياهم الذين لحقوا بها لإتمام العملية إيماءة إلى أن القتل يوجه للمعتدين وليس للأبرياء.
ملده شويكاني