ثقافة

في أدب الصداقة.. رحلة الحياة والفن

حينما تَستنطق مدونات بعينها ما عرف مجازاً بـ أدبيات الصداقة، فهذا يعني العودة إلى ما تعنيه أدبيات الصداقة من تسجيل الحالات النفسية والوجدانية وتدفقاتهما، لكن الجوهري هنا في ما اعتدنا عليه في تلك المدونات، من أنها تثير قضايا ومسائل حياتية، كما مر معنا في الرسائل الأشهر على الأقل في الفضاء الثقافي العربي المعاصر، بين الشاعرين الراحلين محمود درويش وسميح القاسم في كتابهما الأشهر الرسائل، وقبلهما ما كتبه غسان كنفاني وغادة السمان في الشعاع الأزرق، وسدنة الاغتراب رسائل غادة اليوسف ويوسف سامي اليوسف، دون أن ننسى رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران.

في ذلك الإرث الكبير من الرسائل وقفنا كثيراً في حاملها وهو الصداقة، لكنها الصداقة التي تفتح آفاقاً فكرية وإنسانية وأدبية، كما هو الحال في رسائل الروائي الراحل عبد الرحمن منيف والفنان التشكيلي المغترب مروان قصاب باشي، ليأتي كتابهما اللامع «في أدب الصداقة»، وقد احتوى جلَّ الرسائل التي تبادلاها وسعيا فيها إلى تبادل الأحاديث حول الفن والأدب والعلاقة الجدلية بينهما، وأكثر من ذلك ما أثاره الروائي -منيف- من قضايا تخص إبداعه وخطاطاته الأولى لرواياته ومنها «قصة حب مجوسية، وأرض السواد وغيرها» بل علاقته بالأدباء والكتّاب والكتابة، وما أثاره أيضاً –قصاب باشي- حول علاقته باللون وبالرسم وبالأمكنة لا سيما وأن مسرح الرسائل في مهاده الأول كان دمشق-برلين، كفضاءين ثقافيين بامتياز انفتحا بقدر كبير على العلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان والذاكرة، واللافت في الرسائل الكثيفة المشبعة باليوميات وطقوس الصداقة بين مبدعين كبيرين ساهم كل منهما بقسط وافر في حياة الآخر الإبداعية، لا سيما وأن مروان قصاب باشي هو من صمم جلَّ أغلفة روايات منيف، وعلى ذلك سوف ينتبه القارئ إلى رحلة اللون والكلمة وتواشجهما في هواجس المبدعين واللحظات الفارقة التي وضعت فيها الأغلفة ومرت بأجواء من التحضيرات والمراسلات.
يعيدنا كتاب «في أدب الصداقة» إلى تأملها بالمعنى الإبداعي والفكري وكيف تُشتق منها عوالم صافية شديدة الحساسية والرهافة، إذ هو رحلة سيكولوجية إلى البدايات وإلى الأعماق وإلى المعنى الذي تقف وراءه عشرات الروايات كما اللوحات والأعمال الفنية، بيد أن العلاقة بين الكلمة والرسم في اتصالها وانفصالها هي علاقة إبداعية لا تقوم على تبادل الأدوار فحسب، بل تنفتح على سعة إبداعية تعيدنا إلى بدايات –منيف- الذي عشق الرسم ومحاولات قصاب باشي للكتابة الإبداعية لتكون ثمرة ذلك التعاون الكتاب الهاجس، الذي كان طموحهما كليهما لإنجاز كتاب «رحلة الحياة والفن» حيث كتب منيف نصوص الكتاب التي تقدم مروان الفنان، إذ يجهر منيف برأيه في إحدى الرسائل بالقول: «سرني هذا الجنون الجميل للكتابة وفي هذا المجال أخشى أن تنافسني، إذا لم ننسق ونجعل هذه الكتابة في سياق يؤدي إلى صيغة، وعند ذاك سوف نجد اكتشافاً جميلاً: العلاقة بين وسائل التعبير».
رسائل تقع خارج القانون السائد «رسالة وجوابها»، لتشي بمجمر إبداعي تتخلّق فيه لحظات الإبداع الأولى الفطرية بما تحمله معها من طزاجة ومن قلق للفنان، والمبدع، فتُحيلنا إلى الطبيعة الحوارية لعبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، للوصول إلى لغة مشتركة تحرّض الذاكرة وتستعيد وقائعها، فاللقاء الأول كان بينهما عام 1956، إلى 1990، وخلال ذلك ثمة كم كبير من الرسائل المتبادلة التي تفضي قراءتها بكل ما حوته من تفاصيل لافتة، إلى الكثير من الدهشة والكثير من المعرفة بشخصيتهما المبدعة، فضلاً عن طرافة اليوميات التي مثلت جوانب تفكيرهما المشترك، سعياً للوصول إلى المفتاح في الكتابة وفي اللوحة وغير ذلك، في اللوحة/ الرواية كثافة الأسئلة عن العلاقة بين الفن والأدب، ليصبح الفن حواراً دائماً يتجاوز أزمنته وأمكنته، وليصوغ وعياً إضافياً بجدوى الكلمة وماهية الرسم، إذ يبدو الكتاب أشبه بفصول من رواية لم تكتمل مشبعة بالشعرية وبأسئلتها العابرة للنصوص، لكن أبرزها طلاقة التعبير الذي ميز أسلوبهما المشترك كمبدعين أكثر منهما كصديقين، ما يجعل كتابهما –الرسائل- امتداح لصداقة عابرة للأزمنة والأمكنة والشخوص واللوحات والدقائق والثواني والهواجس المشتركة، لنظل في مقام الصداقة وكيف تصبح إبداعاً رهيفاً يخترق لغة الصمت الأخير كما أوحت الرسالة الأخيرة بين مروان ومنيف، وأكثر من ذلك بين قطبين إبداعيين اشتغلا على دلالة ما يفعلان، ووعياً معرفياً بما ينجزان، يعيد لزمن الأسئلة طريقة بالتفكير تأخذنا إلى المشترك الدال الذي تفيض به عبارة مروان قصاب باشي طي إحدى رسائله: «اللون هو اختراع، والخط اختراع، والحب أيضاً».
في أدب الصداقة لـ عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي
الناشران: المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ دار التنوير للطباعة والنشر- الطبعة الثالثة 2017
أحمد علي هلال