“الخربة”.. التألق في فن الديكور
يقول المخرج البريطاني “ألفريد هيتشكوك” عن فيلمه الشّهير “سايكو” إنّ 33 بالمائة من قيمة الفيلم، أتت من الموسيقى فقط،والّتي ألّفها الموسيقار “برنارد هيرمان” وبعض النقّاد يرفعون النسبة التي تسببت فيها الموسيقى بنجاح الفيلم فوق ذلك بكثير؛ إذا كان من الجائز أن نقيّم النّسب المئويّة للفنون الدّاخلة في صناعة الدّراما،السينمائيّة منها والتّلفزيونيّة،فهل يمكن أن نطرح نفس السّؤال على مسلسل “الخربة” الّذي يُعرض الآن على قناة (سما) الفضائية ؟ السّؤال سوف يذهب إلى المكوّن الفنّي المميّز في العمل،وهو: الدّيكور،إلى أي “نسبة” ساهم الديكور بنجاح “الخربة”؟
لا شكّ أنّ عناصر عديدة ساهمت بنجاح العمل،من نصّ وإخراج وتمثيل،ولكنّ الأهميّة الكبيرة للدّيكور هنا، ونجاحه على عدّة مستويات،تجعله رافعة قويّة لقيمة العمل،ليس فقط على المستوى الدرامي، بل أيضاً على المستوى الثقافي –الجغرافي-فقبل الدخول بموضوع أهميّته للعمل يجب التنويه إلى أهميته الثقافية.
ليس من المبالغة افتراض أنّ ديكور هذا العمل يرقى إلى مستوى تحدّ عالمي؛ ففي وقت تنتشر فيه التصاميم الغربيّة في الديكورات والإكسسوارات والمفروشات،بفعل شركات كبرى عابرة للقارّات، تؤدّي إلى تعميم مزاج عالمي (عولمي) في الذائقة المجتمعيّة والأسريّة، وذلك باختيار ما توفّره مواقع النت، وبروشورات الشركات من تصاميم ومفروشات، يقدم الفنان (هيجار عيسى) هذه النماذج من قرية في محافظة السويداء، والتي اشتغل عليها قرابة الثلاثة أشهر، بعناية وحرص، وبطريقة تجعل المتابعين للمسلسل يقتنعون بأنّه فعلاً ديكور واقعي،وذلك بفضل لمساته الاحترافية التي تُراعي هذا الجانب، فيتعرّض الجمهور لجرعة جماليّة تشكيليّة عالية، وذلك إلى جانب الدراما والقصة والممثلين، ويرى النّاس كيف يمكن لديكور قروي أن يكون جميلاً، بل ومعتمداً، وكثير من الأشخاص الذين التقيتهم – ومنهم أنا – صرنا نتمنّى أن نؤسس ديكور منازلنا على طريقة منزل (أبو قعقور) أو ( أبو مالحة)،لما تقدمه من بساطة وجمال في آن، وأيضاً لما توفّره من تمرّد وخروج على المألوف والسائد في أنماط الديكور والمفروشات المنتشرة،فهذا الديكور ليس صاخباً،ولا يوحي بملامح عصر السّرعة، وإنما ديكور لطيف،أليف،يبعث على مشاعر الاسترخاء،والراحة.
أمّا دراميّاً فقد خدم هذا الديكور العمل بقوّة،فنحن نجد أنفسنا أمام جمال قروي على المستوى البصري،المكان يشكّل حاضناً دراميّاً للشخصيّات، بطريقة تقترب من مكانها الواقعي، وأيضا في كل لقطة، وفي كل مشهد،نحن على موعد مع لوحة جميلة،وتشكيل مميّز،يُساهم بقوّة في تعزيز الاستعداد النفسي للمتفرّجين بتقبّل هذه الكوميديا الاجتماعيّة.
بالتأكيد جاءت اللمسات الفنية الباذخة في خلفية المشاهد التي تمر تباعا أمام المشاهد، وهو شبه مأخوذ بالديكور المعتنى به وبتفاصيله بشكل كبير، وفي كل الفضاء المكاني الذي دارت أحداث المسلسل فيه، كما هو الحال في بيت كبير آل “أبو قعقور” -بيت أبو نمر- الذي تجتمع في فسحته السماوية إضافة إلى الخضرة التي تضيفها “الزريعة” والورود المغروسة في علب صفيح ملونة، تلك “الجلسة” التي يشتهي أن يكون فيها من يتابع العمل، “صوفا” مريحة، وطاولة بسيطة بجانبها دائما “غاز” صغير ملون بالأزرق أيضا، وفي كل غرفة من غرفه الواسعة، العديد من التحف الفنية الجميلة المعلقة على الحائط، والعديد من الرسوم التزيينينة الجمالية، حتى الباب الخارجي لبيت أبو نمر مشغول بماء العين كما يقال، في تجانس بديع بين اللون الفضي، والإطار الملون للباب المقنطر الموجود ضمن باب أكبر، كما يذهب اللون الأزرق بتدرجاته المفرحة، ليظهر تقريبا في معظم لقطات العمل، حتى في الطرق الخارجية، والتي تبدو بلمسة فنية من هذا اللون، وكأنها تشكل لوحة تشكيلية بحد ذاتها، أيضا الشباكان الصغيران المطلان على ساحة القرية، تم تلوينهما باللون الأحمر القانئ، ما يعطي المشهد بعدا جماليا أخاذا، يترك أثره في وجدان المشاهد، وهو يتساءل إن كان ثمة أماكن هكذا فعلا؟ أيضا في بيت “أبو نايف” كبير عائلة “أبو مالحة” والذي يجيء منزله بمضافته البديعة وكأنه متحفا متكاملا بين العناصر الجمالية، التي اجتمعت في تلك المضافة، ومنها التصميم الخاص بالمضافة الواسعة والشرحة بشبابيكها المطلة على كل الاتجاهات، اللون السماوي الجميل الذي يغطي الجدران، والسجاد العربي الذي يغطي أرضية المضافة والمتكأ المريح حيث يجلس الضيوف، عدا عن ما يشبه التحف المعلقة على الحائط والتي أعطت بعدا جماليا خاصا للمكان.
عموما استطاع الفنان أن يجد توليفة بارعة في الديكور الذي أسسه لمسلسل “الخربة” حتى أنه استخدم مفردات ذاك المكان برمزيتها، ليوظفها في خدمة المشهد العام –كيس البصل الأحمر المعلق على الحائط-غرفة ندى التي تبدو وكأنها غرفة فتاة في حكاية، كل ما سبق ذكره، قدم لنا فرجة بصرية مفرحة ومبهجة، تكاد تكون بحد ذاتها عملا فنيا، بعيدا حتى عن العمل المذكور.
الفنان مهندس الديكور”هيجار عيسى”، يشتغل بمهارة كبيرة وحرفة مميزة على الاستفادة من عناصر الفراغ والعمق، في علاقتهما مع اللون، ويراعي ضمن ذلك مفاهيم، العمق والكادر، التي يجب أن تتفق بين الديكور والتصوير، فهذا الديكور جميل بذاته إذا نظرنا إليه كديكور، وفي نفس الوقت مناسب جدا للاستعمال الدرامي.
تمّام علي بركات