ثقافة

الدراما السورية.. كيف حالهن حبايبنا!؟

“ياسلمى افتحي الشبّاك وياكابتن نحن وراك”عبارة رمزيّة يقف خلفها الكثير من العبارات، والحكايات، والذكريات تمثل في مجموع ماتمثّله منظومة متّسقة المفردات والصور التي استوعبتها ذاكرتي واختزنتها على مدى سنين من متابعتي للدراما السوريّة. والحقيقة لم أكن لأتوقع أن تظل صامدة في مخيلتي كل هذه الأعوام وتعشعش عميقاً فيها وتنسج حولها سياجاً غير قابل للاختراق أو النسيان.

هذه الجملة بمفردها مقتبسة من مسلسل “هوى بحري” الذي عندما عُرض كنت صغيرةً جداً على فهم معظم مشاهده، ولكني مسحورة بلغته البصرية، وأناقة قصته وأداء ممثليه، حفظته كما حفظت أغلب حوارات المسلسلات الدرامية السورية التي عُرضت في تلك الفترة وما تلاها من سنوات أستطيع أن أعتبرها الآن أجمل مامر على عيني وقلبي، حيث كانت المسلسلات السورية وقتها قليلة العدد، عظيمة الأثر، وإلى الآن لم أستطع الخروج من عباءة تاريخها وأصالتها عندما كانت الوجوه حقيقية ومعروفة، والقصص والنصوص المعروضة قابلة للالتصاق في وجداننا الجمعي كجمهور كان ينتظر ساعة عرض مسلسله بفارغ الصبر.

يومها لم تكن زحمة الفضائيات وعشوائية العروض قد اتسعت هكذا، ففي الماضي عندما كانت تضيع منك حلقة لن تتاح لك فرصة حضورها مرة أخرى إلا مروية على لسان أحدٍ ممن شاهدها دونك، كانت وسائل الوصول للمحتوى الدرامي حينها محدودة وبسيطة، فلم تكن الثورة التكنولوجية بعد قد أرخت بأساليبها على التلفزيونات والسينما وأجهزة التواصل الجماهيري.

وقتها ظننت أن هذا الكم الهائل من السحر والألق والألفة سيتضاعف مئات المرات عندما تكثر المحطات ونقوم بشراء جهاز استقبالٍ فضائي، وأن هذا الخيط الممتد نحو ذاكرتي لن ينقطع عندما يعاد المسلسل الواحد عشرات المرات، ولكن جاءت الاحتكارات الفضائية وشركات الإنتاج الخاصة و”العربية المشتركة”، شراء المسلسلات، حصرية العروض، الإعلانات وحرب الرعاة والتمويل لتضرب في عمق شاشاتنا فكثرت الأعمال والنصوص والوجوه التلفزيونية، وزاد عدد الجمل والكلمات واللقطات وغرقنا في فوضى الصور التلفزيونية التي جمّعت معاً وابتلينا بها، لا بل أُجبرنا على ابتلاعها على معدة ممتلئة دون أن تمر على عقولنا وأرواحنا، ودون أن يتسنى لها أن تعلق في أذهاننا، فقد أفضى هذا الكمّ الهائل من الدراما التي سقطت علينا فجأة لضياع الخصوصية والاتجاه بالنسبة لنا كمشاهدين، وسواء أكان المحتوى المقدّم جيداً أم لا.. هادفاً أم لا.. واقعياً أم لا، فإننا وقعنا في فخٍّ حصري ومموَّل، وفقدنا الإحساس الذي كان يربطنا ويربطني شخصياً بهذا المسلسل أو ذاك.. بهذه القصة أو تلك.. ولا يبدو أني قادرة على إيجاده مرة أخرى في المدى المنظور.

تُقلّب الشاشات هذه الأيام لتواجهك هذه الشرذمة الدرامية التي ما عاد عقلك يستطيع ترتيبها، فلم يعد المسلسل ينتمي لدولة واحدة ولم تعد قادراً على معرفة جنسيته، بل طغت الإنتاجات المشتركة على هذه الأعمال، وطبعاً هذا لا يعيب العمل ولا يقلّل من قيمته وبالتالي لا يستدعي دق ناقوس الخطر والتعبئة الإعلامية ضده، فعلى العكس مثل هذه الإنتاجات المشتركة ليست جديدة وكانت موجودة قبل ذلك، وكثيراً ما كانت المسلسلات السورية تضج بالعناصر العربية الأخرى كمكون أساسي في خلطة دراماها ولكن كان الهدف والشكل من هذا الإنتاج المشترك مختلفاً كثيراً عما هو عليه الآن، فما يحدث اليوم هو تذويب هذه العناصر المتنافرة لدرجة الاحتراق، فكل بلد له همومه، وكينونته الخاصة، وأغلب هذه الأعمال لم تستطع أن تستوعب هذه الهموم الحياتية المختلفة، أو تخلق لنفسها جنسية أو هدفاً واضحاً محدداً لها، بل استعاضت عن ذلك بجذب الأسماء الكبيرة والنجوم اللامعة من كل دولة لتجميعها كلها في مسلسلات درامية مقتبسة بمجملها عن أعمال غربية، لاتينية، أوروبية،أو حتى تركية في محاولات “نسخ لصق” درامي لن يستطيع المشاهد إنكارها أو التقليل من أهميتها، ومع كل هذا التشابه والتقليد سيضطر للانتظار بضعة مشاهد ومراقبة شفاه الممثلين ليتأكد أن هذا العمل ليس مدبلجاً، بل هو عمل عربي جماعي رغم تشابه الديكور والأزياء والمسابح والفنادق والأثاث، مع ما تعودنا مشاهدته على قنواتنا منذ ثورة السلطان العثماني على ثقافتنا، وإعادة دبلجة عقولنا وحياتنا درامياً. فهذه الديكورات والملابس وهذه الألوان والكاميرا السينمائية التي ما اعتدناها رغم دقتها تبدو عاجزة عن نقل الواقع الذي اعتادت على نقله بكل براعة يوم كانت شبه بدائية، وتصويبنا ليس اتجاه هذا الشكل الهيكل وهذه التفاصيل الصغيرة التي تتغير وتتطور باستمرار لتتلاءم مع كل يوم بيومه، إن نظرنا مصوب نحو المضمون، والنص الذي غاب عن مسلسلاتنا وأصبح ضبابياً، رمادياً وأكثر ارتياباً من ذي قبل. فرغم كل هذه الجماهيرية التي حققتها الدراما السورية في الماضي، ورغم كل هذا التطور الهائل الذي تفجر حولها، إلا أنها ما استطاعت أن تطور مضمونها بل ظلت قائمة على أمجاد سابقة، ومسلسلات بائدة تبدو اليوم غريبة عنها ولا تمت لها بصلة حتى وجوه الممثلين الذين حُفروا في ذاكرتنا بأدوارٍ وأعمال  اعتبرت وقتها ثورة في عالم الدراما على مستوى الوطن العربي، تبدو اليوم غريبة وثقيلة علينا متخبطة هي الأخرى بين الواقع والماضي.

قد تكون هذه الأموال وشركات الإنتاج ساهمت بشكل كبير في تطور الدراما السورية، ولكنها فرضت واقعاً جديداً أجبرتها على تبنيه، وسحبت في السنوات القليلة الماضية البساط من تحت هذه الصناعة، لتلغي تاريخاً مشرفاً لها، وتعطل حركتها التي كانت تبدو أنها لن تتوقف، وأنها تجبر صنّاع الدراما في كل البلدان المجاورة على مجاراتها أو حتى محاولة البقاء خلفها، إن هذا المال المهدور من بعض  شركات الإنتاج العربية أضر الشاشة السورية الصغيرة، وعبث في جمالية روحها وصدق نصوصها وأفسد خصوصيتها وتماهيها مع الواقع السوري اليومي المعاش، حيث باتت اليوم منفصمة عن واقعها ومشاهديها ومحلقة في فضاءات المشترك، بدون أي انتماء، أو أفق وخط عام يحددها، إنها فقط تحاول النجاة والبقاء على قيد العرض، وحتى هذه المحاولة تبدو يائسة فأيّ نوعٍ من الدراما السورية  الأصيلة نتحدث عنه اليوم  وننتصر له! وهي المتزعزعة المتحولة من قطرٍ لآخر ومن لهجةٍ لأخرى، فوجودها اليوم لا يعدو كونه محاولات فردية بائسة لممثلين ومخرجين وأصحاب مواهب قرروا أن ينجوا بشغفهم وقدراتهم التمثيلية فالتحقوا بركب الدراما العربية دون تجنيس مسبق لأجندتهم الدرامية.

إن ما يكتب عنه اليوم هو بقايا هذه الدراما السورية التي لا تخرج عن كونها مثل أي شيء قائم في هذه الحياة له دورة حياة  تنتهي بالموت وتبدأ بالولادة.. وما نشاهده اليوم هو احتضار بطيء لهذه القطرية الدرامية لحساب البرامج العربية المشتركة وما يطلبه المشاهدون من نصوص تكتب على ذوقهم وتناسب شريحة دون أخرى وبلداً دون آخر.

ومع كل هذا التخبط الدرامي والسباق المحموم نحو عقل المشاهد فنحن لا نستنكر ولا نملك الحق لكيل الاتهام لأحد في محاولته البقاء على قيد الشاشات، إننا فقط نبدو غير واثقين ومقتنعين بما يعرض علينا للاستهلاك على أنه صناعة تلفزيونية ومسلسلات درامية تعلق بالذاكرة.

إننا فقط نتساءل أين تلك النصوص والقصص التي كانت تشدنا لهذه الشاشة الصغيرة..!؟ أين هذا الدفء!؟ هذا الحنين!؟ ذاك الشعور الذي كان يتملكنا عندما تعاطفنا وبكينا، وضحكنا مع مسلسلات الزمن الجميل.. لماذا لم نعد ندرك هذا الجمال الذي كان يغمر مسلسلاتنا..!؟ لماذا أصبحت بهذا البرود..!؟ هل هذا ما يريده المشاهد ويفرضه المنتج!؟

سلمى فتحت شباكها والدراما قفزت من هذا الشباك نحو مزيد من الألوان، مزيد من التصنع، والأجزاء المكررة والجمل المكبوتة ونحن لم نستطع أن نسير خلفها أو نجد لها طعماً ولوناً سوى أنها مجرد إشباع لغرائزنا الدرامية المستحدثة.

أعود لنفسي القديمة وذكريات الزمن الجميل وأنا محمّلة بهذا العبء العاطفي لتلك الدقائق التلفزيونية التي تمحورت عليها حياتي لألقي بثقل هذا الحنين على ظروف الزمان والمكان، فربما كنت وقتها كما كان غيري أسعد وأكثر طمأنينة استطعت معهما إدراك جمال ما يعرض علي، أما اليوم ومع مايحيط بنا من عدم استقرار وتشظٍ وجودي أشعر أننا لا نستطيع الوصول للحقيقة أو الشعور بهذا الجمال، وهذا يذكرني بالمقولة القائلة “أنه لا نستطيع إدراك الجمال إلا في وسط مناسب له” وتبقى أسئلتنا وتمنياتنا وحنيننا مجرد حبر على ورق لا يعدو كونه محاولة لدغدغة ذكرياتنا التي كان التلفزيون جزءاً لا يتجزأ منها.. كان عزيزاً علينا لدرجة أننا عندما رأيناه ينزف دماً أردنا أن نسأل عنه كيف حاله..!؟ كيف حال درامانا…! “كيف حالهن حبايبنا” بدون أن نجرح أحداً سوى أنفسنا.. وآمالنا بغدٍ أفضل.

بثينة أكرم قاسم