ثقافةصحيفة البعث

ماذا يعني أن تكون أباً

ينشغل العالم برمته محتفلا على الأقل في يوم واحد من كل عام بالأم، إنها رمز العطاء والحنان والمحبة والعطف، إنها تماما عكس الدنيا التي نشكو قسوتها، فنذكرها للتخفيف من تلك القسوة الضاربة جذورها بين أوردتنا، نلجأ إليها حتى في خيالنا عندما يصبح الحال الذي نحن عليه مزريا، فنود لو نعود صغارا تحت نظراتها كما كنا دون أن نكبر أبدا.

أحدهم قام بتحوير بيت شعر كامل لهذا الغرض بالذات، حيث صادف أنه كان متواجدا في منطقة من مناطق سورية الباردة جدا، فذكر اسم أمه والصقيع يصفعه الكف تلو الأخر بقوله: “أيا برد المكان ذكرتني أمي أيام تقضي الليل في ضمي” وهو حتى ليس بشاعر، تذكر دفئها ووضعه في بيت شعر وكأنه هو من “خرط” حروفه الذهبية المعنى!.

إذا ذكرها حاضر وقدري في الحياة اليومية، وهي تستحق كل كلمة تقال في حقها، وربما قليل هو الكلام  أمام ندرتها، لذا تكتظ الفنون السبعة عموما بذكرها وتخليدها وتمجيدها، حتى في النصوص المقدسة، تحضر مبجلة وتحت قدميها تنفجر الجنان، ولكن مهلا، ماذا عن الأب؟ لماذا كل هذا الإنكار سواء كان أدبيا أو حياتيا معاشا عموما لدور الأب في الحياة، تلك التي لا تقوم لها قائمة بدونه؟ فأدبيا قليلة جدا هي القصائد التي تذكره عدا تلك التي تجيء في رثائه على قلتها، كذا الأمر ينسحب على بقية الفنون، أفلام نادرة جدا عنه، كذا في المسرح والغناء والتشكيل..الخ،  في الحياة أيضا، يحضر الأب حتى في اليوم الذي يدّعي أنه باسمه، وكأنه يوما زائدا عن الحاجة، فلا مدارس أو دوائر حكومية تعطل في يومه، ولم يحظ بأغنية يحفظها الجميع عنه، إنه على ما يبدو ليس ملهما لقريحة الشعراء بأنواعهم!، لا هدايا أيضا تفرحه في هذه المناسبة العابرة، كتلك التي تكتظ بها واجهات المحال التجارية، وذلك في مناسبات أخرى أقل شأنا بما لا يحتمل المقارنة كبدعة “الفالنتاين” مثلا، وربما يمرّ اليوم عليه كما كل الأيام، وهو يحمل الجبال تلو الجبال في الحياة القاسية التي يتحمل أعباءها، دون أن يشعر ولو للحظة بأنه يقدم ما يفوق طاقته، بل إن شعورا عارما بالحزن يعتريه، في حال مضى يوما لم يستطع فيه أن يحقق مطلبا فوق قدرته لأحد أبنائه فيه، وربما لم يغمض له جفن في تلك الليلة!.

في نظرة عامة وليست فاحصة، يبدو حضور الأب في المجتمعات على عمومها، وكأنه الخلفية الشفافة التي تحيط تلك الحيوات التي تبتسم ربما في صورة، ولا مجال للمقارنة بين كل من الأب والأم في حضورهما في الحياة، حيث يطغى حضور الأم على حضوره طغيانا كاملا، ويمكننا أن نعود إلى الفنون التي تعتبر مرآة المجتمع لندرك ذلك ونشعر فيه، ففي الشعر قليلة هي القصائد بل ونادرة، تلك التي تأتي على ذكره، وإن حصل هذا، فمعظم تلك القصائد جاء في الرثاء، رثائه هو، بينما يوجد ألوفاً مؤلفة إن لم نقل ملايين القصائد تلك التي تتغنى بالأم وعظمتها، وهكذا يبدو الأب شبحا في الأدب كما في الحياة، وهذا حقيقي، فهو ليس متوفرا دائما، إنه مشغول جدا بأن يكون الحليب والرغيف متوفران على الفطور، عوض الضم والتقبيل والأمنيات الطيبة، حتى لو اقتضى الأمر أن ينزل إلى مقالب القمامة، والبحث فيها عن رزقه، وهذا لا يقلل من قيمته، فالعمل شرف، ولكن دعونا ننظر إلى الموضوع من وجهة نظره، هل اعتاد الموضوع؟ هل بقي ذلك الصياد الذي خرج وربما يعود وربما لا إلى الكهف ومعه الوليمة؟،هل الوجه الصارم للأب والانشغال الدائم في الخارج يعني أنه لا يحمل بين جنبيه قلبا محبا وعطوفا يتألم لآلام الأبناء، ويشتاق لهم عندما يغيبون، ولا يرضى بهم بديلا، ويضحي بكل شيء من أجل سعادتهم والبقاء بجانبهم؟ ماذا عن خوفه؟ ماذا عن محبته؟ لماذا هي مختبئة وخجولة بهذا الشكل؟ ماذا عن تلك المشاعر الصافية التي تنسكب في داخله كلما كانت أسرته بخير؟ ولماذا كل قهر وحزن العالم يُلقى على قلبه إن كان أحد الأبناء مريضا؟ ما يشعر به يبقى حبيسا بين أضلاعه، فهو من يجب أن يبقى واقفا كالأبد ليلوذ الجميع بظله، ولا يجب أن يُظهر لحظة ضعف أمام أسرته مهما كان حاله صعبا وقاسيا ولا تحمله الجبال.

أن تكون أبا يعني أن تكون متفانيا لا مرئيا، و”سيزيفياً” يوميا لا يكل ولا يمل عن العطاء إلا عندما يصبح جثة هامدة، عندها يقف عطاءك المباشر فقط، لكنك تبقى تعطي وبحب حتى وأنت تحت التراب.

أن تكون أبا يعني أن تنسى الخصوصية والألم الذي قد يصيبك فتتجاهله لتكمل مهامك الجسام، بل قد تنسى الحياة نفسها في سبيل أسرتك وبيتك، البيت الذي ربما لا تدخله إلا بعد أن يخلد كل من فيه بأمان للنوم، وسيرضيك من الدنيا والسماء معا، أن ترى الأبناء والزوجة بخير، بل وسترتسم ابتسامة تعبة على وجهك، وأنت تعيد غطاء ابنك الذي تعرف أنه من يوقع الغطاء عنه عادة، قبل أن تغفو ساهيا وأنت متكئا بغرض استراحة بسيطة، ريثما يسخن ماء الاستحمام، وقبل أن تأكل حتى. أن تكون أبا يعني أن تكون مستعدا وفي أي وقت لدفع حياتك رخيصة مقابل أن تحمي أسرتك وأهلك وبنوك، رأينا وسمعنا عن آلاف الآباء وهم يعودون جثثا هامدة وربما لا تعود إلا أسماءهم، حيث بقيت رفاتهم تقاتل، كما حدث مع الكثير من الرجال الذين ذهبوا ليدفعوا الموت والخوف عن أسرهم، دون أن يترددوا ولو للحظة في ذلك.

أن تكون أبا يعني أن تتحمل كل هذا الإنكار الاجتماعي والحياتي والأدبي، لعظيم ما تفعل في كل يوم أينما كنت، دون أن يعني لك الأمر إلا ما عنّاه لك دائما، إنك تقوم فقط بواجبك الطبيعي كأب، يعني أن تنظر بعيون الرضا إلى الحياة مهما قست عليك، طالما أن من تحبهم بخير، هذا وغيره الكثير من الأمور التي لا يتسع لها مقال ولا كتاب ولا مجلدات ضخام، تحمل بعضا مما يعني أنك أب لا زال له لقبا يطلق عليه حتى اليوم، “ربّ البيت”.

في قصيدة بديعة للشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري -1916-1992-بعنوان (أب) يحفر شاعرنا الحروف ليصف شعوره وهو يودع أبناءه، الذين جاؤوا لزيارته حيث كان يعمل في بيروت، وعندما انتهت العطلة وعاد الأبناء إلى مدينتهم حلب، بدأت خيالاتهم تروح وتجيء في باله الذي لم يحتمل هذا البعد، فبكى وهو يقول:

بالأمس كانوا ملء منزلنا

واليوم، ويح اليوم قد ذهبوا

إني أراهم أينما التفتت

نفسـي وقد سكنوا، وقد وثبوا

قد يعجب العذال من رجل

يبكي، ولو لم أبكِ فالعجبُ

هيهات ما كل البُكا خوَر

إني وبي عزم الرجال أبُ.

تمّام علي بركات