الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

هذه الكتابة

عبد الكريم النّاعم
أ‌- هذه الكتابة وجدتُها مكتوبة على ورقة اصفرّت لعتاقتها، وأنا من الذين يرحّلون بعض الأوراق من مكان إلى آخر، على أمل العودة إليها، وهذا مجرّد مدّ في الأجل، وأعلم أنّني أحتاج إلى عمر آخر يُضاف لعمري لأُنجز ذلك، وأمامي رُكام من الورق ضاغط بصمته، مقلِق في انتظاره، حتى لكأنّه تحييد غير محيَّد، يظلّ يُلاحقني، ولا أدري ما إذا كنتُ سأحزم أمري في لحظة ما، فأتخلّص من هذا الرّكام دفعة واحدة، وقد فعلتُ ببعض أوراقي شيئا من هذا، وما زلتُ نادماً، وأخشى أنْ أراكم الندم، ولكنّ رهاني سيكون على أنّ كلّ ما يغيب يفقد حضوره، ولو بالمحو التدريجي.. هذه الورقة، جديرة بالانتباه إليها أنّها كُتبت بخطّ يدي، أي أنّ هذا كان قبل تعرّفي على الكمبيوتر، وكنتُ أكتب بخطّ قالوا عنه إنّه جميل، والأسطر فيها مكتوبة بسنّ ريشة، وكنتُ أعود إلى ذلك بين زمن وآخر، ربّما لأشمّ رائحة أزمنة أوغلتْ حتى تغرّبت عن أزمنتنا هذه، الآن جمال خطّي يتراجع بالتدريج لاعتمادي على الرّقن الكمبيوتري، وكما يٌقال في قُرانا، “الذي تتركه يتركك”..
أنتقل الآن إلى ما في الورقة في فقرتين:
ب- الفقرة الأولى: في ذلك الرّيف الذي ابتعد بعرباته العالية، يومَ كان فكّ الحرف ظَفَراً، وجهداً، وحظّاً، كانت مفردة شاعر تعني مَن يبتكر، ويرتجل أنواع الغناء الشعبي: العتابا- الكصيد- الموليّة –الدّلعونا- النّايل –السّويحلي.الخ..، بمعنى أنّ الإبداع كان شرطاً مُضمَرا في الشاعر، أمّا نافخ القصبة، والمجوِز، والزّورنة، وضارب إيقاع الطّبل فلم تكن صدورهم صالحة لتعليق تلك الشارة.
الرّباب وحده انفرد بقيمة اعتباريّة خاصّة، لا لأنّه الآلة الوترية الوحيدة من تلك الآلات، بل لأنّ قدرة العازف الماهر فيه تُدخلك تلك المنطقة التي يمتزج فيها الشعر بالموسيقا، بوجَع الوَرد.
احتجّ عليّ الذي في داخلي، ولا يتركني وقال: “لماذا قلت الرّباب، ولم تقل “الرّبابة”؟
قلت: “أليس المعنى واحداً”.
قال: “أنا أرى في التّاء المؤنّثة الحنونة صورة لدوَران ولَهَف الكوْن، فلا تُغفل النقطتين الدّالتين على ثنائيّة ماتقوم به الموجودات..
الفقرة الثانية تقول، دخل عليّ وكان في يدي مجموعة شعريّة لشاعر، نشترك أنا وإيّاه في أنّنا لا نحبّه، فقال بامتعاض: “كيف تقرأ لهذا المخلوق”؟!
قلت: “أنا أقرأ شعره”
قال: “ما الفارق”؟
قلت: “حين يكون الشعر شعرا، فإنّ صاحبة يكون قد تخلّى، لحظةَ الإبداع، عن أعلاق الغَبَش، والكره، والحسد، فأنا أتواصل مع اللحظة الألق”.
قال: “وهجائيّات الشعراء الكبار؟ خذ شاعرا كبيرا كالمتنبّي مثلا؟”.
قلت: “رغم أني لا أميل إلى قراءة الأماديح، والهجاء، فإنّ تشنيع صفات المهجوّ تنطوي على الإشارة إلى أقمار الكمالات”.
قال: “وقد يكون شعر شاعر لا تجد في سلوكه، إلاّ ما شذّ من شفافيّة وألق”.
قلت:” أنت تتحدّث عن الإنسان الكامل في الشعر، وأنا أبحث عن الشعر الكامل في الإنسان.
aaalnaem@gmail.com