دراساتصحيفة البعث

أوروبا الغربية تتخلى عن أقنعتها

 

د. مازن المغربي

يبدو أن محاولات تغطية أو تجميل وجه الرأسمالية البشع صارت من الماضي، ولم يعد قادة بلدان أوروبا الغربية يترددون في القيام بأفعال واستخدام عبارات وتصريحات بعيدة عن الأعراف الديبلوماسية دون أي اهتمام بردات الفعل عليها.
لم تكن أقنعة التجميل موجهة إلى الخارج بل كان القصد منها إرضاء الشارع الداخلي، وعدم استثارة الرأي العام وإرضاء المزاج الشعبي تحسباً للاستحقاقات الانتخابية الدورية. وقد سبق للعديد من البلدان الغربية مواجهة أزمات اجتماعية كبرى ترجمت إلى مظاهرات وإضرابات عامة هزت أسس النظام الرأسمالي القائم، وقد تكون الأحداث التي شهدتها فرنسا قبل نصف قرن أبرز تلك الاضطرابات الكبرى وآخرها.
إن الرأسمالية هي بالتعريف نظام قائم على النهب وعلى إفقار الشرائح الأوسع وتركيز الثروات الضخمة وفق ما أورده روبرت كورتز في كتابه القيم ( كتاب الرأسمالية الأسود) الصادر عام 1999 في مدينة فرانكفورت الألمانية. لكن الرأسمالية هي أيضاً نظام يتصف بالمرونة وبالقدرة على الخداع، وتقديم تنازلات واستعادة التوازن. فبين شهري أيار وحزيران 1968 عمت إضرابات طلابية المؤسسات التعليمية الفرنسية مطالبة بتغيير جذري في النظام القائم ورفعت شعارات ثورية المحتوى عبرت عن خيبة أمل الجيل الشاب من إمكانية إجراء تغيير حقيقي عبر الانتخابات التي وصفت بأنها لعبة الأغبياء. وسرعان ما انضم عمال المصانع الكبرى إلى الحركة الاحتجاجية وكاد النظام أن ينهار ولم ينقذه سوى تقديم مجموعة من التنازلات. ولم يمر الحدث بسهولة وبادرت مراكز الأبحاث إلى تحليل أسباب الاضطرابات والأساليب التي تم استخدامها في التحريض والتواصل كما بذلت جهود كبيرة لاستيعاب النخبة القيادية التي أفرزتها تلك الاضطرابات بهدف دمجها بالنظام القائم وتعتبر حالة النائب في البرلمان الأوروبي دانييل كوهن- بنديت أبرز مثال على عملية دمج القيادات البارزة واستيعابها حيث كان هذا الشاب في الثالثة والعشرين من العمر وقت تلك الأحداث وتمكن من فرض نفسه قائداً للحركة الطلابية وحمل لقب داني الأحمر لنراه بعد سنوات عضواً في البرلمان الذي كان يتهمه بتزوير الإرادة الشعبية.
واليوم يبدو جلياً أن وزن الرأي العام وقدرته على التأثير على الأحداث قد تراجع بشكل كبير ولم يأت هذا من فراغ بل من خطط مدروسة بعناية بهدف التحكم بالعقول وضبط إيقاع المجتمع. واعتمدت عملية تطويع العقول على مسارين هما نظام التعليم والإعلام. وحول نظام التعليم كتب هنري لويس منكن الذي كان من أبرز المؤثرين في مجتمع الولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي منحه لقب حكيم بلتيمور، إن هدف نظام التعليم العام لا يتمثل أبداً بنشر التنوير بل السعي إلى الهبوط بمستوى أكبر عدد ممكن من الأفراد ليتطابقوا مع نموذج المواطنة بهدف القضاء على كل أصالة وعلى كل نزعة للتمرد. كما أن دور الإعلام لا يقل أهمية لأنه يكرس بشكل مباشر أو مخاتل القيم التي تناسب النخب الحاكمة ويتم استثمار الرسائل الإعلامية المباشرة وغير المباشرة لنشر وتعميم الجهل والأفكار الخاطئة.
ومن أخطر الرسائل غير المباشرة تلك الموجهة إلى الصغار واليافعين لأنها تترسخ في الأذهان وتصبح مثل البديهيات. تبدأ عملية السيطرة على العقول منذ السنوات الأولى لحياة البشر وترافقهم طوال حياتهم. وتروج وسائل الإعلام الجماهيرية صورة المواطن الصالح الذي يطيع كل التعليمات الإدارية دون أي تردد ويتقبل الروايات الرسمية دون تشكيك. ومن المؤكد أن الوصول إلى هذا المستوى من التحكم بالرأي العام لم يتم دفعة واحدة بل على مراحل بلغت ذروتها في أيامنا هذه حيث لم نشاهد تحركات جماهيرية ضد الاستعدادات الجدية لحرب يمكن أن تتسبب بصدام بين قوى تمتلك أسلحة نووية.
ويبدو أن قدرة أنصار السلام في حشد الجماهير في بلدان أوروبا الغربية قد تراجعت بشكل كبير خصوصاً عندما نقارن الوضع الحالي مع الاحتجاجات الواسعة التي سبقت حرب الخليج الأولى عام 1991 عندما نزل الملايين من البشر احتجاجاً على مخططات اجتياح العراق. وتكرر ذلك عام 2003 على نطاق أوسع وبلغت ذروتها في الخامس عشر من شباط عندما انطلقت المظاهرات المنددة بالحرب في أكثر من ستمائة مدينة في مختلف أرجاء العالم، وفي باريس عاصمة فرنسا، على سبيل المثال، نزل قرابة مائتي ألف متظاهر إلى الشوارع رافعين شعار لا للحرب وشهدت مدن فرنسية أخرى مظاهرات شارك فيها عشرات الآلاف.
ثمة العديد من أوجه التشابه بين الوضع العالمي الحالي والظروف التي سادت في أوروبا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث نلاحظ ميل متصاعد لاعتماد القوة العسكرية لحسم الخلافات حول تقاسم مناطق النفوذ. ونلاحظ ميل متصاعد لعسكرة السياسة الخارجية في العديد من البلدان الغربية. ففي فرنسا على سبيل المثال طرح وزير الدفاع مشروعاً لتخصيص ثلاثمائة مليار يورو للإنفاق العسكري حتى عام 2025 بهدف تعزيز مكانة فرنسا على المسرح الدولي. وفي ألمانيا التي تبنت عقيدة عسكرية جديدة ثمة مشاريع جدية لتطوير القوة العسكرية الألمانية. وفيما يخص بريطانيا فكالعادة هناك اصطفاف تام خلف قيادة دونالد ترامب. لذا قد يكون من المنطقي تفسير غياب الحركات الاحتجاجية الشعبية ضد الحرب بيأس الشعوب من امتلاك القدرة على التأثير على القرارات السياسية ونتيجة إغراق الناس بطوفان من المعلومات عبر شبكة الإنترنت التي لم تفلت بدورها من الرقابة على الرغم من الوهم الذي تولده بامتلاك القدرة على الوصول إلى الأخبار الحقيقية. ومنذ أن تبنت محركات البحث الكبرى الخوارزميات الجديدة التي توجه الرأي بطريقة ذكية صار من الصعب، لغير المهتمين، الوصول إلى أخبار حقيقية وبالتالي يمكن القول إن مراكز القرار نجحت في حصر الاحتجاجات ضد العدوان الذي استهدف سورية ضمن إطار المؤسسات القائمة.
وقد كان العدوان الهمجي ضد سورية بمثابة فرصة ليتبارى زعماء بلدان الديمقراطيات الغربية في تأكيد تبعيتهم لمراكز صنع القرارات في الولايات المتحدة، وليستعرضوا قدراتهم العسكرية بشكل مثير للاستهجان. كان خطابهم بعيد عن العقل والمنطق ويتضمن ازدراء لعقول الناس في مختلف أرجاء العالم. حيث شاركت القوات البريطانية في العدوان بقرار من رئيسة الحكومة التي لم تخاطر بطرح موضوع مشاركة قوات بريطانية في الهجوم على سورية على مجلس العموم ورأيناها بعد تنفيذ الغارات تجلس مرتبكة نتيجة النقد اللاذع الذي وجهه إليها زعيم المعارضة العمالية في السادس عشر من الشهر الجاري عندما قال لها بأنها مسؤولة أمام البرلمان ولا تتمثل مهمتها في إرضاء رئيس الولايات المتحدة، وسخر من حجج الدوافع الإنسانية وذكّرها بما يجري في اليمن من حرب إبادة تستخدم فيها أسلحة محظورة دولياً.
وفي فرنسا تعرض الرئيس ماكرون لانتقادات لاذعة من قبل نواب من اليسار ومن أقصى اليمين لكن هذا الأمر ليس بالجديد بعد أن صار من المعروف أن مشروع الإصلاحات الدستورية التي يسعى ماكرون لفرضها تسعى إلى الحد من قدرة الجمعية العمومية على التأثير على قرارات السلطة التنفيذية وهو الأمر الذي لخصه بوضوح رئيس كتلة الجمهوريين في البرلمان كريستيان جاكوب عندما صرح بأن الحكومة الفرنسية هي حكومة تكنوقراط ولا تحبذ أن يتم عرقلة عملها من قبل أعضاء البرلمان المنتخبين. ويبدو أن علاقة ماكرون غير الودية مع البرلمان المنتخب صارت من الأمور المعروفة كما نتبين من مقال نشرته صحيفة لو فيجارو في التاسع من شهر آذار المنصرم تحت عنوان ( هل يكره ماكرون البرلمان؟) ويستفاد منه أن رئيس الجمهورية الفرنسية يرغب في تغيير نمط عمل البرلمان بحيث يصبح ملحقاً بالسلطة التنفيذية.
هناك بعض المؤشرات حول سعي بعض الجهات لتكرار الضربات ضد بلادنا، ولا يبدو أنه من الممكن التعويل على قدرة شعوب البلدان الغربية على ردع أصحاب القرار من اللجوء إلى سياسات تتعارض مع القانون الدولي القائم على مبدأ سيادة الدول وبالتالي لا يمكن مجابهة مثل هذه المخططات وإحباطها إلا من خلال تعزيز الجبهة الداخلية والوقوف خلف جيشنا البطل ودعم التحالفات الإقليمية والدولية التي بنتها القيادة السياسية على مدى سنوات طويلة.