الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أهل الكهف

د. نهلة عيسى
أُطفئ هواتفي وشاشات تلفزة الموت, وأغلقُ النوافذ, وأتكور في حضن سريري, مستجدية النوم, أو النسيان, أو حتى فقدان الذاكرة, على أمل أن أصحو مثل “أهل الكهف” في زمن آخر, ربما لن يكون أفضل مما نحن فيه, ولكنه على الأقل سيكون زمناً لا أنتمي إليه, ولا أعرف أحداً فيه, ولذلك لن يوجعني موت, ولن يغضبني كذب, ولن يقهرني ظلم, ولن يشقيني عجز, ولن يمزقني تقاعس, ولن تبكيني هزيمة توكيل الصغار بعظائم الأمور, والكبار بتوافه الأمور, لنضيع بين الإفراط والتفريط!!
أحلم بنوم “أهل الكهف”, لأن قلبي جائع لحقيقة “حقيقية”, وقد سئمت الشعارات على الشاشات والجدران, وهذا الاحتضار الطويل, وأرغب حقاً بوداع هذا الزمن المشؤوم, لكن المشكلة أنني أخاف أن أقابل في الزمن الآخر, ما هربت منه في الحاضر, ذلك لأن البلد بكل مؤسساتها من أهل الكهف, تنام قريرة العين عن كل شواغل الغد,لا يؤرقها سؤال, ولا تبحث عن جواب, رغم سنوات الحرب الطويلة, التي رمت في وجوهنا ألف سؤال وسؤال, لكن من لم يجب على ماذا ولماذا, لا أظنه مهموماً بالإجابة على كيف!؟.
أحلم بنوم “أهل الكهف”, لأني لا أجيد الفرجة من بعيد, ولا ارتداء الجليد معطفاً للقلب, ولأني أيضاً لا أريد بيع عقلي للشيطان, وقد مللت الحقائق الجلفة غير المأمول بحلها, لواقعنا المسموم, حيث الادعاء الكاذب أننا بخير, بديل بائس عن معرفة موجعة, بأن الزمن ليس عجلة يمكن إعادة تدويرها إلى الخلف وكأن شيئاً لم يكن, وأيضاً من قال: إن الخلف كان زمناً يستحق الرجوع إليه, ألا يكفي لتجنب العودة إليه, أن الحاضر ابناً شرعياً له!؟.
أحلم بنوم “أهل الكهف”, لأن صورة للوطن قبل الحرب, وبعد سبع سنوات منها, سوف تكون أبلغ توصيف لهواجسي الوجودية, ومخاوفي الكابوسية, وأنا أرى معالم الدمار والخراب في البشر قبل الحجر, وملامح التآلف مع القبح والبشاعة, واعتياد ليس الوجع فحسب, بل أيضاً الاستباحة والموت والتطاول والعدوان, واعتبار كل ذلك قضاءً وقدراً, بل (وهنا المأساة) شطارة واحتيال على العيش, وتلاؤم مع مقتضيات الحال, ولتذهب كل دماء الشهداء والجرحى, ودموع أمهاتهم وحبيباتهم هدراً إلى جحيم اللامبالاة والنسيان, ولنستعد حياتنا الماضية بكل أخطائها وهناتها كوجبة بائتة, مضافاً إليها كل قباحة الحاضر بفساده وفاسديه ومرتزقته, كتوابل ومنكهات حارقة لواقع مر, وليس أبشع من خليط المر مع الكاوي الحار, غير تبنيه والدفاع عنه, وترويجه باعتباره انتصاراً على الموت, بما هو ألعن من الموت!!
أحلم بنوم “أهل الكهف”, لأن المبررات الموضوعية لجزعي, تسير على قدمين أمام وجوهنا جميعاً, بداية بتعايش الناس السلمي مع الرشوة والخوة”, اللذين استشريا إلى حد أنهما أصبحا قانوناً ملزماً وقاعدة ضرورية لحل كل الأمور اليومية, وبما يتجاوز حتى البديهيات, بطبيعته وسلاسة حدوثه وتقبله, لدرجة أخشى أن يأتي يوماً نصنع فيه نصباً تذكارياً للنزاهة, نذهب إليه في المواسم والأعياد لالتقاط الصور, والحديث بلغة السائح العابر الغشيم, عن ذاك الراحل العظيم منذ زمن بعيد!.
أحلم بنوم “أهل الكهف” لأتجنب رؤية مهادنة الجميع, لتجار وسماسرة الوطن, ومسامرة المتسلقين والانتهازيين والوصوليين, ومصاحبتهم والتداني أمامهم, وتحويلهم إلى رموز للنجاح والاقتداء والفخر, والطأطأة لوقاحاتهم, وأكاذيبهم عن الشرف والنبل ونظافة اليد, بصورة تبيح لهؤلاء الاستمرار في مص الدماء وهدر الكرامات, والتباهي بالتسابق المحموم للتعدي على كل القوانين والقيم, بل والتفاخر بانتهاكها, وتتويج المفرط منهم في الخروج على النظام, بطلاً شعبياً, تروى فيه وعنه المآثر والملاحم!!
أحلم بنوم “أهل الكهف”, لأن حياتنا صارت أشبه بلعبة الورق الشهيرة (التريكس), البارع فيها, هو من يُحمّل باقي اللاعبين كل الأوراق غير المرغوب فيها, مع السعي الحثيث للوصول إلى نهاية اللعبة بأقل قدر من الخسائر على حساب شركاء اللعب, لدرجة أن الواحد منا بات يجهل من يحارب, ولماذا يحارب, ومع من يحارب!؟