الصفحة الاولىصحيفة البعث

لم تعد دولاً عظمى

لم يكن ما يسمى “الربيع العربي” إلا كاشفاً حقيقياً لوهم الدول التي كانت تدّعي أنها عظمى في مرحلة من التاريخ القديم، ومن بين تلك الدول فرنسا التي تغنّت بعد سقوط الباستيل بالحرية، وأصبحت منارة لعالم الفرانكفونية، لكن أيام الباستيل وشارل ديغول ذهبت أدراج الرياح حتى باتت الدولة العظمى ليست إلا دولة فاقدة للقرار السياسي.
هذا الحال سببه المباشر الرؤساء الذين توالوا على الإليزيه، وحوّلوا دولتهم إلى أداة بيد الأمريكي، وعليه لا يحق لفرنسا وغيرها أن تملي شروط اللعبة الأممية السياسية، ولا يحق لها إطلاق التهديدات هنا وهناك، وآخرها تهديد ايمانويل ماكرون بضرب سورية بشكل منفرد أمام المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين.
فقدان فرنسا عظمتها يتكشف من خلال تهويل الرئيس الفرنسي الذي يبحث عن دور فرنسي جديد في الشرق الأوسط، لكنه يبحث في واقع الحال عن مخرج لأزمة ضعفه الداخلي عبر الإيحاء بأن بلاده لا تزال تمتلك التأثير في السياسة الخارجية، لكن حتى هذا الإيحاء هو إشارة بأن فرنسا لا تزال تحافظ على تبعيتها للولايات المتحدة في السياسة الخارجية، وأنها لا تزال تعوّل على أميركا في أن تأخذ المصالح الفرنسية بعين الرأفة.
وعلى الرغم من الإذلال الأميركي لأوروبا، إلا أن ماكرون، الذي صرّح في أكثر من مناسبة أنه لا يمكن التعويل على أمريكا، يسعى لعدم إزعاج الشريك الأميركي تعويلاً على مكاسب محتملة من المغانم الأميركية في الشرق الأوسط وغيره، وليس تعويلاً على الحماية الأميركية التي تخلى عنها ترامب، بحسب تعبير ماكرون.
في واقع الحال إن تراجع الدول العظمى عن عظمتها لا ينطبق فقط على فرنسا، بل أيضاً على باقي أضلاع المثلث الأمريكي البريطاني الفرنسي، بسبب السياسات الفاشلة التي انتهجها القادة الأوروبيون في الشأنين الداخلي والخارجي، بدليل “التحالفات الجديدة”، وانحياز العديد من الدول الأوروبية إلى اليمين المتطرّف، وعدم مراهنتها على أوروبا الموحدة، والسبب في ذلك هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه الذي لم يفعل شيئاً سوى كشف أزمة أوروبا في عجزها عن بناء سياسة خارجية مستقلة.
من هنا يبدو أن ماكرون، الذي يحلو له إطلاق العبارات، يحاول تقمّص دور نابليون بونابرت، بحسب التعليقات الفرنسية، لكن الأسلوب الذي يستخدمه هذا الشاب، للإيحاء بقدرته على التأثير في السياسة الدولية، هو محاولة للتهرّب من أزمته الداخلية التي تتلخّص بأن جميع وعوده لما سماه “الثورة الإصلاحية” تتكشّف وعوداً جوفاء أدت إلى انخفاض شعبيته وحتى إفقاد فرنسا هيبتها، وهذا ما تسعى إليه المعارضات الفرنسية من خلال العمل على تحويل الانتخابات الأوروبية في فرنسا بعد 9 أشهر إلى استفتاء على عزله من الحكم.
ووفق معظم الدراسات التي تناولت تقويم فترة رئاسته في فرنسا، لا يتناول ماكرون سوى إطلاق الحديث عن وعود من دون مضمون، وفي الغالب تستند هذه الوعود على معطيات خاطئة تماماً، أو شديدة المبالغة، فهو يراهن على التقرّب من أميركا لحجز مكان ما في الشرق الأوسط.
علي اليوسف