حرب تشرين التحريرية وتحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”
علي اليوسف
في تشرين الأول، تعود بنا الذاكرة في كل عام إلى حرب تشرين التحريرية التي لاتزال مفاعيلها ونتائجها راسخة في عقولنا، كونها الحرب الوحيدة التي غيّرت مجرى الأحداث في المنطقة العربية، ورسّخت فكرة المقاومة والممانعة، صحيح أن العالم شهد الكثير من الحروب، إلا أنه كان لحرب تشرين التحريرية، ولايزال، وقع خاص في نفوس من حمل راية المقاومة، وقاتل العدو الصهيوني، ولا مبالغة في القول إنها معركة خاصة بكل المعايير، لأن الكيان الصهيوني كان نتاج جميع الحروب التي سبقت حرب تشرين التحريرية، وتم زرعه ككيان غريب في جسد الأمة الواحدة.
من الطبيعي أن تكون أي حرب نزاعاً وصراعاً مسلحاً بين طرفين أو أكثر، الهدف منها تحقيق أهداف معينة، كإعادة التوزيع الجغرافي والسياسي للدول، لكن حرب تشرين التحريرية التي شنتها كل من سورية ومصر على الكيان الصهيوني عام 1973 في صحراء سيناء، وهضبة الجولان لاسترداد الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” في حرب 1967، كانت تحمل طابع الإرادة والعزيمة، وعدم الركون إلى ما قررته دول الاستعمار القديم، وقد نجحت مصر في اختراق خط بارليف خلال ست ساعات من بدء الحرب، بينما دمرت القوات السورية المواقع الإسرائيلية المتواجدة في هضبة الجولان، وحققت تقدماً كبيراً في أولى أيام الحرب، كاستعادة قمة جبل الشيخ.
أسباب الحرب
لعل من أهم أسباب حرب تشرين عام 1973 الفشل الذريع في حل النزاعات الإقليمية الناشئة عن الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، فعلى الرغم من قرار الأمم المتحدة (242) الذي دعا إلى انسحاب “إسرائيل” من الأراضي المحتلة في عام 1967، إلا أنه لم يتم إحراز أي تقدم ملحوظ في تنفيذ القرار، وبالتالي كانت الحرب العربية “الإسرائيلية” الرابعة، إذ عمد الكيان الصهيوني بعد حرب حزيران 1967، وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22 تشرين الثاني 1967 القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها، وتجميد الوضع الراهن، إلى التهرب من تطبيق ذلك القرار بالتسويف والمماطلة، بهدف تهويد أكبر مساحة من الأرض العربية، وإقامة أكبر عدد من المستوطنات فيها لهضمها واستثمار ثرواتها، ونتيجة لهذا التعنت أخذت مصر وسورية تعدان العدة لاسترجاع أراضيهما المحتلة بالقوة، ودخلتا في صراع مسلح مكشوف ومحدود لإنهاك القوات الإسرائيلية وإجبارها على التخلي عن المناطق المحتلة في معارك محلية، وقصف جوي ومدفعي على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية فيما سمي “حرب الاستنزاف”، وقد دخلت مصر هذه الحرب يوم 8/3/1969، في حين لم تتوقف أصلاً على الجبهة السورية منذ حرب حزيران 1967، ونشطت في هذه الأثناء أعمال المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، وبرزت قوة فاعلة أنعشت آمال الأمة العربية، وأصبح الجو مهيأ لجولة تحرير جديدة هي حرب تشرين 1973، كانت الحرب جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الصراع الذي تضمن العديد من الحروب منذ عام 1948.
الجبهة السورية
افتتحت مصر حرب 1973 بضربة جوية تشكّلت من نحو 222 طائرة مقاتلة عبرت قناة السويس، وخط الكشف الراداري للجيش الإسرائيلي مجتمعة في وقت واحد، وتم اختراق خط بارليف خلال ست ساعات فقط من بداية المعركة، في التوقيت نفسه، وحسب الاتفاق المسبق، قام الجيش السوري بهجوم شامل في هضبة الجولان، وشنت الطائرات السورية هجوماً كبيراً على المواقع والتحصينات الإسرائيلية في عمق الجولان، وهاجمت التجمعات العسكرية، والدبابات، ومرابض المدفعية الإسرائيلية، ومحطات الرادارات، وخطوط الإمداد، وحقق الجيش السوري نجاحاً كبيراً، وتمكن في 7 تشرين الأول من الاستيلاء على القاعدة الإسرائيلية الواقعة على كتف جيل الشيخ في عملية إنزال بطولية نادرة استولى خلالها على مرصد جبل الشيخ، وعلى أراض في جنوب هضبة الجولان، ورفع العلم السوري فوق أعلى قمة في جبل الشيخ.
الجسر الجوي الأمريكي
كان رد الفعل من القوات الأمريكية سريعاً بإمداد “إسرائيل” بجسر جوي من قاعدة في تركيا وسط ساحة المعركة في الجولان، ما ساعد “الإسرائيليين” على القيام بهجوم معاكس في الجولان، وحاول الجيش الإسرائيلي بمساعدة أمريكية مباشرة إيقاف الجيش السوري من التقدم بعد أن وصلت وحدات من الجيش السوري إلى مشارف بحيرة طبريا، غير أن الكفة أخذت ترجح لصالح الجانب “الإسرائيلي” نتيجة التعزيزات الضخمة التي بدأت تصل إلى ميدان المعركة، وتوقف القتال في الجانب المصري، ما دفع القيادة الإسرائيلية لتركيز جهودها الاستراتيجية على جبهة الجولان لتقديرها أن الهجوم السوري يهدد مصير “إسرائيل” كله.
تدخلت الدولة العظمى في ذلك الحين في سياق الحرب بشكل غير مباشر، وبعد الاتفاق على وقف إطلاق النار يوم 22 تشرين الأول تبيّن أن القوات الإسرائيلية لا تحترم هذا الاتفاق، بل وتحاول توسيع الأرض، بعد ذلك أعلنت أمريكا أنها سوف ترسل وزير خارجيتها هنري كيسنجر إلى المنطقة للعمل على التوصل إلى حل، وقد كان ذلك بالفعل، وبدأت الزيارة في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني حتى توصل كيسنجر إلى اتفاقيتي هدنة: إحداهما على الجبهة المصرية في كانون الأول 1974، والأخرى على الجبهة السورية في أيار من العام نفسه.
حرب الاستنزاف
في أوائل عام 1974، شنت سورية حرب استنزاف ضد القوات الإسرائيلية في الجولان، تركزت على منطقة جبل الشيخ، واستمرت 82 يوماً كبدت فيها الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة، وأيضاً توسطت الولايات المتحدة، عبر الجولات المكوكية لوزير خارجيتها هنري كيسنجر، حتى تم التوصل إلى اتفاق لفك الاشتباك العسكري بين سورية و”إسرائيل”، ونص الاتفاق الذي وقع في حزيران 1974 على انسحاب “إسرائيل” من شريط الأراضي المحتلة عام 1967، يتضمن مدينة القنيطرة، وفي 24 حزيران رفع القائد المؤسس حافظ الأسد العلم السوري في سماء القنيطرة المحررة.
في الحقيقة، شهدت حرب تشرين التحريرية بطولات كبيرة قام بها ضباط وصف ضباط وجنود الجيشين العربيين السوري والمصري، وقد أسفرت الحرب عن تغيير كبير في موازين الصراع العربي– الإسرائيلي، وأكدت قدرة العرب على تحقيق إنجازات كبيرة إذا ما توحّدت إرادة القتال فيما بينهم، كما برهنت من جانب آخر على ضرورة أن يمد العرب أنفسهم بأسباب القوة وفقاً لمعاييرها الحديثة، لأنها الوسيلة الوحيدة لاسترجاع الحقوق العربية المغتصبة.