ثقافةصحيفة البعث

أمل.. بلا أمل

 

كانت تنتقل بين الطاولات على مهل، لا نشاطاً مبالغاً فيه كبعض زميلاتها، ولا بروداً جامداً، كانت بين الهدوء والنشاط، فتاة بابتسامة كل الحياة، وعلى ما يبدو أن ذلك ما جعلني أشعر بقرب تجاهها.
خلال المرات القليلة التي أتيت فيها إلى هذا المقهى، قبل أن أصبح على صلة وصداقة جميلة مع أمل اسم الفتاة اليافعة، ذات الجدولة الناعمة على كتفها الأيمن، أمل صاحبة العينين الدافئتين، والراضيتين، التي كانت تعمل في المقهى، والتي أحببت المقهى فيما بعد لأجلها فقط.
ذات مرة وبعد أن جالت نظراتي معها في كل مكان أشرت إليها، وعندما اقتربت مني سألتها عن اسمها، فأجابتني أمل، ولأنني أهوى الأبراج وأراقب صفات الناس من خلال أبراجهم، فقد توقعت أن يكون برجها كبرجي “العذراء”، فسألتها: ما برجك؟ فأجابتني بهدوئها المعتاد، لا أعرف، ابتسمت ممازحة معقول لا تعرفين، قولي لي تاريخ ميلادك وسأخبرك عن برجك وصفاته أيضا، فابتسمت مرة أخرى وبذات الهدوء قالت: صدقيني لا أعرف تاريخ ميلادي تحديدا. وانصرفت..
هل يعقل أن سؤالي أزعجها حتى رفضت إخباري بميلادها، قد تكون ممن يعتبرون ذلك تطفلاً، كان علي ألا أسألها. وبعدها بفترة عرفت أنها يتيمة، وأنها قضت طفولتها في ميتم، ولا معيل لديها، لذلك فهي تعمل في هذا المقهى.
مرات عدة بعدها قصدت المقهى، كان مقهى هادئا ومريحاً ولهذا كنت أقصده، مرات برفقة أصدقائي وأخرى لوحدي، وكل المرات كانت أمل تستقبلني بابتسامتها الهادئة اللطيفة، ذات يوم كنت لوحدي، وخطر ببالي أن أعتذر لها عن المرة التي سألتها فيها عن تاريخ ميلادها، وعندما اقتربت مني قلت لها: حينما سألتك عن تاريخ ميلادك كان في نيتي أن أعرف برجك، فقد تخيّلتك من برج العذراء مثلي، ولم أكن أقصد إزعاجك، فابتسمت بكل ود وقالت: أبدا لم أنزعج، لكنني حقا أجهل تاريخ ميلادي، الجميع يخبرني أن سنة ميلادي كانت في عام 1991، لكن لا أحد يعرف الشهر واليوم، ولهذا لم أعرف برجي، ولكني سأكون سعيدة إن كان برجي كبرجك.
ابتسمت لها بذات الود وقلت: اتفقنا، من الآن فصاعدا يكون برجك العذراء، وسأخبرك عن مستجدات برجنا الجميل كلّما أتيت إلى هنا.
ابتسمت أمل وذهبت تتابع عملها.. ثلاثة أشهر مرّت، كنت في كل مرة آتي فيها إلى المقهى أتحدث مع أمل، وأخبرها عن تفاصيل البرج الجميل، وزادت صداقتنا، حتى روت لي عن قصة حب جميلة تنمو في قلبها، مع جندي في الجيش السوري.
لاحظت أجمل ابتسامة في عينيها حينما أخبرتني أنها ستتزوج قريبا، وفي المرة التي بعدها أخبرتني أنها ستترك العمل في المقهى، فخطيبها لا يقبل أن تعمل هنا بعد الآن، باركت لها وفرحت كثيرا، كانت سعادتها عارمة، ما جعلني أشعر بالفرح الشديد لأجلها.
كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيت فيها أمل، فقد تزوجت وعاشت في منزل زوجها، وتوقفت عن العمل كما أخبرتني..
في المرة الأولى التي أتيت فيها إلى المقهى بعد رحيلها، شعرت بشيء ناقص، ربما كان هدوءها، أو ابتسامتها، أو حتى تنقلها بين الطاولات، لكني كنت سعيدة لأجلها، وشعرت أن الستارة أســــــــــدلت أخيرا على نهاية جميلة.
إلى أن جاء ذلك اليوم، إذ كنت لوحدي، وكان علي أن أنهي كتابة مقال صحفي، حينما قررت الذهاب إلى ذلك المقهى، وحالما جلست جاء الشاب الذي اعتدت أن أطلب منه بعد رحيل أمل، وطلبت فنجان قهوة.
كنت أستغرق في الكتابة حينما جاء فنجان القهوة، لكنني لاحظت أن يد امرأة من وضعته على الطاولة، رفعت رأسي فإذا بأمل، تبتسم بحزن، بملابس سوداء، وملامح باهتة، وقفت بفرح وقلت لها: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ أخبريني عن أحوالك، وكيف حال زوجك؟.
وقبل أن أتم جملة الأسئلة التي بدأتها، قاطعتني وقالت بحزن كبير: استشهد.
ولكن، متى، وكيف، وقفت مذهولة من الخبر، وضعت أمل فنجان القهوة، وابتسمت لي بكل حزن.
فقلت لها: أخبريني عنك، هل أنت بخير.
فأجابت بحزن: أنا بخير.. أصبحت أمل.. بلا أمل، ومضت، فالستارة لم تسدل على نهاية جميلة.
مادلين جليس

Comments are closed.