دراساتصحيفة البعث

فلسطين والخليج في السياسة الأمريكية- الإسرائيلية

الدكتور سليم بركات

تعد القضية الفلسطينية محور النضال العربي، وهي مرتبطة بجميع الأحداث السياسية المهمة بطريقة أو بأخرى على مستوى المنطقة والعالم، تارة يطلق عليها الصراع العربي الصهيوني، أو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتارة أخرى أزمة الشرق الأوسط الكبير، أو أزمة الشرق الأوسط الجديد.

احتلت هذه القضية بالتدريج مكانة مركزية في الشؤون الدولية ما قبل وما بعد  الحرب العالمية الثانية، لينتج عنها قيام “إسرائيل” عام 1948، وما تلاها من تهجير للشعب الفلسطيني خارج دياره، زد على ذلك ما رافق هذه القضية من اضطرابات داخلية كارثية على مستوى الوطن العربي، وما نتج عنها من حروب منذ وعد بلفور عام 1917 وحتى يومنا هذا نتيجة الدعم الامبريالي الصهيوني الرجعي لـ “إسرائيل”، ولعل ثورة عام 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وثورة الثامن من آذار بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1963، والتي بلغت ذروتها بقيام الحركة التصحيحية بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد عام 1970، قد جاءتا رداً على الهزائم العسكرية التي مني بها العرب في سنة 1948، وتبع ذلك أكثر من 120 ثورة أو انقلاباً في الوطن العربي في السنوات الثلاث والعشرين التي تلت قيام “إسرائيل” ما بين 1948و1971.

مع تتابع الهزائم العسكرية للعرب الواحدة تلو الأخرى، لم يكن هناك مفر من أن تؤدي هذه الهزائم إلى الغضب الجماهيري المطالب للسلطات المسؤولة بالمزيد من الإصلاحات، ولكن بدلاً من الشروع في تحديث البلاد العربية بعد طرد الاستعمار الغربي، خضعت الأقطار العربية لقيود شديدة ثبتتها الوقائع السياسية، والاجتماعية، والعسكرية المناهضة للإصلاح، وهي ليست بسبب النقص في الموارد البشرية، والاقتصادية، والمالية، وإنما بسبب عدم المواجهة الاستعمارية الاستيطانية لتصبح في إطار ما يجب أن يكون، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التعقيدات الدولية، وإلى ارتفاع التكاليف، وتعذر قياس الإنفاق العسكري منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا.

جرت العديد من المحاولات الدولية لحل الصراع العربي الصهيوني منذ التفكير الأول في مشروع ما يسمى “الدولة اليهودية” الذي تبناه “تيودور هرتزل” في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بال السويسرية في 29 آب 1897، محاولات بدأت بمشروع السلطان العثماني عبد الحميد الذي عرض عليه قبول الهجرة اليهودية إلى فلسطين مقابل تغطية ديون الدولة العثمانية من قبل الحركة الصهيونية، لتنتهي في صفقة القرن التي أخرجها الرئيس الأمريكي ترامب في هذه المرحلة بالاتفاق مع التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي، عبر مشروع “سايكس بيكو” عام 1916، ووعد بلفور في عام 1917 الذي رفض من قبل الشعب العربي، وعلى رأسه الشعب العربي الفلسطيني، وتبع ذلك مشروع الصلح في باريس 1918 الذي تخلى فيه الشريف حسين عن فلسطين مقابل منحه دولة على الأرض العربية، وهي “المملكة الأردنية الهاشمية”، تلاه مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين، بعد أن أعلنته بريطانيا أثناء انتدابها على فلسطين عام 1922، ومن ثم كان مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين، دولة عربية، ودولة يهودية الذي أعلنته الأمم المتحدة عام 1947، ورفضته الدول العربية، كما كان مشروع “بن غوريون”عام 1948 تحت شعار: “وطنك يا إسرائيل” من الفرات إلى النيل، زد على ذلك عدة مشاريع يأتي في طليعتها مشروع “النروج”، ومشروع “جاما”، ومشروع “دلس”، ومشروع “ايدن”، وغير ذلك من المشاريع التي بقيت تطرح حتى تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، والتي تبنت مشروع التحرير الكامل للتراب الفلسطيني، ليأتي بعد ذلك مشروع “أبو رقيبة” المتضمن الاعتراف بـ “إسرائيل”، تلاه مشروع اللاءات الثلاث الذي أعلنه جمال عبد الناصر بعد نكسة حزيران في عام 1967، وتلا ذلك مشروع “السلام” للرئيس اليوغسلافي “تيتو” عام 1976، ومشروع السلام المصري الإسرائيلي عام 1977، ومشروع الأمير فهد للسلام عام 1981، ومشروع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982، والذي تضمن اعتراف المنظمة بحق “إسرائيل” في الأراضي التي احتلتها في عام 1948، ومشروع التفاوض مع “إسرائيل” الذي أعلنه ياسر عرفات في عام 1988 مطالباً بقيام الدولة الفلسطينية، ومشروع السلام في الشرق الأوسط في مدريد عام 1991، ومشروع اوسلو عام 1993 الذي ينص على اعتراف المنظمة بـ “إسرائيل”، وإقامة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، ومن ثم كانت المبادرة العربية للسلام عام 2002، ومشروع “بونس” لإسقاط حق العودة عام 2004، وبعدها مشروع الانتخابات الفلسطينية الذي فازت به حماس عام 2007، والذي كان على أثره مشروع الانقسام بين منظمة التحرير وحماس المستمر حتى اليوم، وفي خضم هذه المشاريع برز مشروع الدولة الواحدة “أسراطين” الذي تبناه معمر القذافي، وقس على ذلك من مشاريع لاحقة حتى الوصول إلى  “صفقة القرن” التي يتبناها الرئيس الأمريكي ترامب، والحبل على الجرار!.

صفقة القرن هي بالأصل مبادرة “إسرائيلية” للسلام، وترمي إلى تحقيق حل شامل متعدد الأطراف للنزاع العربي الصهيوني، وفي الطليعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما ترمي إلى تحميل العرب مسؤولية هذا الصراع، وتعفي الجانب “الإسرائيلي” من الذنب الناجم عن استمراره، صفقة القرن شراكة “إسرائيلية” مع بعض الأقطار العربية بقيادة أمريكية تعمل تحت شعار وضع حد للصراع في الشرق الأوسط من خلال تشكيل كيان فلسطيني بديل عن فلسطين يتم تأمينه عبر التزامات دولية، وعن طريق اتحاد كونفدرالي مع مصر والأردن يستوعب مجموع الشعب العربي الفلسطيني، بما في ذلك العرب الفلسطينيون في الداخل، صفقة القرن تلغي حق العودة، وتطالب بتجنيس الفلسطينيين في الدول التي يقيمون فيها من خلال دعم دولي شامل، وهي تدعو إلى اعتراف العرب بـ “إسرائيل”، وأن تكون القدس عاصمة للدولة اليهودية، كما تدعو إلى حلّ حزب الله، وإعادة استقرار لبنان، وإلى تحجيم قدرات إيران، وتفكيك دول محور المقاومة، وإلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، وهذا لا يكون إلا بتعزيز نفوذ  الإسلام السياسي الإرهابي، الجيش البديل للتحالف الأمريكي الإسرائيلي الرجعي على مستوى المنطقة والعالم.

شهدت مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي الكثير من المحاولات الدولية لحل الصراع أو نزع فتيله، ووضعت الخطط للسلام، ونظمت المحادثات من أجله، كما وجدت المبادرات التي شملت مشروع “روجرز”، ومبادرة “شولتز”، ومشروع “نيكسون”، ومشروع “فهد”، وإعلان البندقية، ومحادثات السلام الثنائية، والثلاثية، ومتعددة الأطراف، وكل ذلك حدث ولكن من دون جدوى، حيث لاتزال القضية الفلسطينية تراوح مكانها، وهي تسيطر على الشؤون الدولية منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ليلة غزو العراق عام 2003 خارطة طريق للسلام في الشرق الأوسط، لم تغب عن انتباه الكثيرين ممن ربطوا بين الأحداث التي تجري في فلسطين، وبين ما يجري من أحداث بفعل الإرهاب، وبدعم من دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية وقطر ومن لف لفهما من دول الخليج العربي، الأمر الذي يعني أن خارطة الطريق التي كانت جزءاً من السياسة الأمريكية لحل الصراع العربي الإسرائيلي قد استبدلت بسياسة التفاوض الكامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين المتبناة الآن من قبل الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة ترامب.

قبل وبعد الغزو الأمريكي للعراق، عم الاستياء الدولي الذي تجلى في المظاهرات الضخمة المناهضة لهذه الحرب في مختلف أنحاء العالم، استياء كان فيه الانتقاد القاسي للمعايير الدولية المزدوجة للسياسة الأمريكية المتجاهلة للانتهاكات الإسرائيلية لقرارات الأمم المتحدة، والتي ردّ عليها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعبارته المشهورة وهي أن الحرب على العراق تتعلق بالسلام بين العرب و”إسرائيل”، رد كانت فيه الإشارة الواضحة للعلاقات المتينة بين “إسرائيل” ودول الخليج برعاية أمريكية، علاقات شهدت مداً وجذراً، وارتفاعاً وهبوطاً، وصاحبتها عقبات وأحداث، واتخذت أشكالاً مختلفة، وأنتجت صلات وتأثيرات متبادلة، وتغلغلت في العلاقات القومية، والوطنية، والإقليمية، والدولية، لتصبح فيما بعد علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، لكن الأمر المفاجئ كان شبكة الارتباطات والعلاقات المجهولة الإسرائيلية الخليجية التي لم يلمح لها إلا نادراً،  والتي بدأت بوعود الرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945 للملك عبد العزيز بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخذ أي قرار بشأن فلسطين من دون التشاور التام مع العرب واليهود على حد سواء، وفي عام 1957 طمأن الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” السعودية بأنه سيشاورها في مستجدات الصراع العربي الصهيوني، وهنا تبرز بداية الصلات الجيدة ما بين “إسرائيل” ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية، برعاية أمريكية مدعمة مالياً من خلال التبرعات السخية لتأمين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي داخل فلسطين وخارجها، ولحقت ذلك صلات وعلاقات بين “إسرائيل” ودول الخليج امتدت لتتجاوز الأفراد إلى مستويات تنظيمية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية خرجت  للعيان من كونها سرية إلى كونها علنية بعد أحداث أيلول عام 2001، لتقف في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة، وهي تشجع على تعزيز الروابط السياسية، والاقتصادية، والعسكرية بين “إسرائيل” ودول مجلس التعاون الخليجي برعاية أمريكية، وتعزز الدور بعيد المدى الذي يتيح لـ “إسرائيل” بأن تكون شريكاً إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي مقابل ضمان أمن الخليج بدعم أمريكي يقوم على افتراض أن بلدان مجلس التعاون الخليجي يمكن التلاعب بسياستها ومقدراتها، الأمر الذي يجعل من الوضع العربي الإسرائيلي متمايزاً عن  الوضع الإسرائيلي الخليجي، كما يجعل من القضية الفلسطينية محصورة بحدود جغرافية معينة خارجة عن حدودها العربية الحقيقية، لتصبح في إطار يعرّض المنطقة بكاملها للخطر.

الراصد للسياسة الأمريكية يجد أن الأكثر ثباتاً في هذه السياسة هو العلاقة المتينة بين أمريكا وإسرائيل والسعودية، كما يجد هشاشة وتقلب العلاقة الأمريكية مع الدول الأخرى على صعيد المنطقة، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد التعاون السري والعلني، الدبلوماسي والاستخباراتي بين دول الخليج وإسرائيل، والدليل، على سبيل المثال لا الحصر، التعهد السعودي بالسماح للطائرات الإسرائيلية بقصف إيران عبر الأجواء السعودية فيما لو هوجمت من قبل أمريكا، وعلى الرغم من رفض “إسرائيل” للمبادرات السعودية للسلام، ومنها مبادرة الملك عبد الله 2002، تحت شعار الأرض مقابل السلام، نجد قبول هذه المبادرات داخل “إسرائيل”، والاستعداد للعمل بمضمونها، والدليل ما قاله رئيس أركان الاحتلال الإسرائيلي في مقابلة مع موقع “ايلاف” الإخباري: نحن مستعدون لتبادل الخبرات مع الدول العربية المعتدلة لمواجهة إيران، ولاسيما مع السعودية التي لم تكن يوماً من الأيام دولة “عدوة” لإسرائيل، وعلى ما يبدو فإن الرقابة الإسرائيلية ومن يقف وراءها قد أدركت اليوم أن الخروج بالعلاقات مع السعودية من السر إلى العلن بات هدفاً لهذه المرحلة، وقس على ذلك مع بعض دول الخليج الأخرى.

بقي أن نقول إن العلاقات الإسرائيلية الخليجية متنامية، وهذا يعني أن ما يمر تحت الطاولة أكثر بكثير مما يظهر فوقها، كما يعني أن الطرفين يتمتعان بعلاقات قوية على مختلف الصعد الدبلوماسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية، ولعل الأيام القادمة ستكشف المزيد من الحقائق عن طبيعة هذه العلاقات، والتي ستتمخض عن تشكيل ناتو عربي جديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.