أخبارصحيفة البعث

خـطاب ” الأستذة “

د. مهدي دخل الله

الأسبوع الماضي تحدثت عن الخطاب الخشبي وعن البراغماتية والواقعية المبدئية، وكي يكتمل هذا التوجه لا بد من ذكر خطاب آخر نعاني منه، وهو خطاب الأستذة والثرثرة ..

هو خطاب نعتمده  في لقاءاتنا واجتماعاتنا، ونتمسك به تمسك الأم بطفلها المدلل، ونرعاه وننميه بحيث أننا نفخر به، بدل أن نخجل منه.

بعض اجتماعاتنا، التي تناقش أموراً صغيرة، تأخذ وقتاً أكثر من الوقت الذي يأخذه اجتماع مجلس الأمن أو قمة عالمية، بل إن ” ثقافة الاجتماع ” عندنا تعتبر الاجتماع القصير عيباً، بينما يراه العالم المعاصر قيمة إيجابية ..

الأسلوب  المثمر في الحوار والنقاش ينبغي أن يلتزم بقاعدتين: قاعدة الإيجاز، وقاعدة “لكل مقام مقال ” ..

قبل أيام أهداني أحد الكتّاب مؤلفاً جديداً ذا مادة بسيطة يمكن شرحها بعدد قليل من الصفحات . شرح صاحبنا أفكاره بأكثر من ثمانمئة صفحة (فقط لا غير)، كان عدد الكلمات في هذا  الكتاب تفوق مرات ومرات عدد كلمات القرآن الكريم، الجامع كل شيء..

بالمقابل .. في أقل من ثلاثة أرباع الساعة، استعرض الرئيس الأسد في اجتماع اللجنة المركزية الأخير الأوضاع السياسية محلياً وإقليمياً وعالمياً، إضافة إلى الوضع الميداني وحالة المجتمع والقضايا الحزبية تنظيماً وفكراً وممارسة… ولم يكتف بالوصف، وإنما تعداه إلى شرح الأساليب المناسبة لمعالجة هذه القضايا  مجتمعة.. كل هذا – أكرر –  في أقل من خمس وأربعين دقيقة ..

كثير منا –أو كلنا – يحتاج إلى  ضعف هذا الوقت لشرح مسألة بديهية حتى لو كان المستمعون مثقفين من الطراز الأول ..

نتحدث عن مسألة محددة يمكن وصفها واقتراح طرق حلها بثلاث دقائق،  لكننا نطيل الشرح بالمقدمات والوصف وتجربتنا الشخصية ونضالنا وميزاتنا، ثم عندما يأتي المفيد يكون المستمع قد ارتفعت عنده نسبة الأدرنالين، وبدأ يشد شعره حتى لو كان أصلعاً، ويشتم في سره التحليل والمحللين والناس أجمعين مقلداً ما فعله زبون الحلاق الثرثار في رائعة مصطفى لطفي المنفلوطي الشهيرة ..

ولا تقتصر تجليات خطاب الأستذة على الإطناب، بل تتعداه إلى ما هو أدهى وأمر، عدم الاعتراف بالمقولة الذهبية ” لكل مقام مقال ” .

ترى الخطاب نفسه، والمصطلحات نفسها، وكذلك نبرة الصوت ولغة الجسد، سواء كان المتلقون أطفال مدرسة ابتدائية، أو كانوا نخبة من أفضل مثقفي البلد وعلمائها .. الخطاب هو هو كلمةً وجملةً وحرفاً .

ومن أسوأ سمات خطاب الأستذة أنه يحاول شرح كل تفصيل، كما يفعل الأساتذة منطلقاً من نرجسية واضحة، وهي أن المتحدث يرى نفسه العالم الوحيد في جلسة من الجهلاء والأميين ..

أخيراً … وبما أنني في إطار النقد، فلا بد من نقد ذاتي أيضاً، وهو أن مقالي هذا يندرج تحت عنوان  ” الأستذة”، لكنه على الأقل يعتمد الإيجاز وليس الإطناب .

mahdidakhlala@gmail.com